د. عبير سلامـة

الكابوس([1])

 

«ليسمح لى الأستاذ توفيق الحكيم. ولم لا وهو الفنان الكبير الذى استباح لنفسه أن يجعل من زيد وعمرو، وكل من يخطر على باله أبطالا لقصص ومسرحيات ليسمح لى أن أستعيره بطلا لهذه القصة، إذ يعلم الله إنى قلبت فى ذاكرتى وفى دفاترى الجديدة والقديمة فلم أجد غيره يصلح بطلا لها. لقد تصورت أنه صحا من نومه فى الأسبوع الماضى وهو يكاد يختنق على أثر كابوس مخيف كان جالسا كعادته فى صالة فندق شبرد، ودقت الساعة التاسعة ولم يبق على ميعاد انصرافه لكى ينام كعادته مبكرا إلا نصف ساعة لا بأس فى قضائها يحملق فى الغادين والرائحين والسائحات والسائحين ورواد هذا الفندق العالمى الغريب عساه يرى فى وجه إحداهن مشكلة تثير الفكر ويسرح لها الوجدان أو يلمح بين عجوز وشابه موقفا دراميا بقليل من التصرف والخيال والتخمين يصبح نواة "لبيجماليون" أخرى أو "براكسا" من نوع جديد.

وهو جالس هكذا أيضا إذا بأحد معارفه يطب عليه فجأة. سلام عليكم. سلام ورحمة الله وهو السلام ينفع.. بالحضن يا توفيق بك بالحضن والله زمان فينك يا أخى وفين الأيام، كل هذا وهما واقفان ووجدها توفيق الحكيم بايخة قليلا، اتفضل. فقعد الرجل، وما كاد يجلس، ودون انتظار "لتصفيق" توفيق الحكيم صفق هو وجاء الجرسون. هات سباتس وقهوة. ذهب الجرسون وعلى غير العادة فى غمضة عين رجع حالا بالكازوزة والقهوة. وما كاد الرجل يرتشف بضع رشفات من الكوب المثلج حتى تهللت أساريره فجأة وكأنه رأى بعينيه ليلة القدر فقد رأى صديقا له مقبلا. وبالحضن أيضا قام أخذه واتفضل يا أخى وقعد الرجل.. تشرب إيه؟.. وسكى بالصودا.. وضايق الأستاذ توفيق هذا الطلب السخيف ولكن الرجل على اية حال ليس صديقه، وليس بالتالى مسئولاً عن مزاجه وتصرفاته. وجاء الويسكى وما كاد الرجل يمصمص بشفتيه فى أعقاب أول رشفة حتى طب رجل آخر لم يعرف توفيق الحكيم المكان صديقا للقادم الأول أم هو صديق الثانى. وما كاد يجلس حتى كان الجرسون فوق رأس المائدة إدينى سندوتش فراخ ولندى وروزبيف واثنين جبنه رومى وبعدين قهوة وما كاد أول سندوتش ينتهى حتى جاء آخر سلم وصفق وطلب. وخامس وسادس وعاشر القعدة تكبر وتكبر والأستاذ توفيق يشرق ويغرب ويتحدث بحماسته المعهودة عن الأدب والفن النيابة وآرائه فى أعضاء المجمع اللغوى، ولكن ولكن رغم حماسته الشديدة فالحقيقة أن أهم ما كان يشغل باله فى ذلك الوقت هو الكوب الزجاجى الفارغ الذى يضع فيه الجرسون ورق الحساب، إذا كان الكوب قريبا جدا منه وكلما تضخم عدد القادمين كان ورق الحساب يتضخم هم الآخر وكانت دقات قلب الأستاذ توفيق تزداد فصحيح أنه عارف تماما أنه لن يدفع من هذا الحساب كله شيئاً اللهم إلا كازوزة القادم الأول ولكن وجود هذه الكومة الرهيبة من الأوراق قريبة منه خطر على أية حال أو هو على الأقل وضع غير مريح وعلى هذا فطوال الحديث عن الأدب والفن كان الأستاذ توفيق مشغولا بزحزحة الكوب بعينه أحيانا وبدفعات خفيفة غير ملحوظة من عصاه مرة أخرى دفعات تبدو دائما كأنها صدفة حتى أصبحت المسافة بينهم مأمونة أى بالقدر الذى لايسمح لابرد جرسون ان يأتى ويقف على رأسه ساعة الحساب ولكن ساعة الحساب جاءت وجاء الجرسون الخواجة بسمنته وسترته البيضاء المترهلة وهلهيليته الاجريكية المعهودة ودونا عن الحاضرين أخطار الأستاذ توفيق ليقول له الحساب والله لخسن خلاص خ نمسوا دلوكتى.

وحين وجد الأستاذ توفيق ان الجميع مشغولين عن الجرسون بالحديث الدائر فيما بينهم أشار للرجل ان يتحلى ببعض الذوق والدم وان ينتظر بعض الوقت فالدنيا لا تطير ورفع الجرسون كتفيه فى تسليم غير مقتنع وانسحب الى الركن غير بعيد أبدا ووقف يتطلع إلى الجلسة الى ساعته ويرفع أكتافه أحيانا ينفخ بصوت مزعج كمواء الخنازير والى ان حل سكون ما قبل ان ينتهى كان الجرسون كان غرس نفسه بصعوبة بينهم الخساب أصلنا خلاص ماسين ولم ينتظر إجابة أو الإشارة مد يده وتناول الأوراق الموضوعة فى الكوب الفارغ ومضى يحسب كمسه وكمسه أسرة. ستين ونص مائة وواحد تلتمية ربعمية واتنين وتسعة وعسرة يبقى كله خمسمية واسرين.

بدا الرقم مزعجا ومهولا للأستاذ توفيق حتى وهو لن يشارك فيه إلا بأقل القليل ولكنه حين وزعه بعملية حسابية طائرة على الحاضرين ووجد ان الشخص سينوبه حوالى الخمسين قرشا هدأ جرمه بعض الشيء وأدار عينيه فى وجوه الحاضرين. ولكنه لم يجد وجوههم انزعاجا ولا احتفالا كبيرا بكمية الحساب أو ضخامته وجدهم ساكنين، ووجد الجرسون أيضا ضخامته وجدهم ساكنين، ووجد الجرسون أيضا واقفا بعد ان انتهى من جمعه وإضافاته مسندا الأوراق فوق قمة كرشه، فى حالة انتظار مؤدب وان كان واضحا انه أدب صناعى لا اثر للطبيعة فيه.

وكان مفروضا طبعا ان يبدأ الجالسون يتحركون، وان يمد كل منهم يده فى جيبه ويصر على الحساب كله مقسما باغلظ الإيمان، أو حتى على أقل القليل يصر على دفع حسابه هو على الطريقة الإنجليزية مثلا.. ولكن، وهذا هو العجب، لم يتحرك منهم أحد، أو يتنحنح أو يبدى اقل بادرة تدل على ان فى نيته ان يدفع الحساب أو يمد يده الى جيبه بأى حال ولو حتى لاستخراج منديل

الأستاذ توفيق هو الآخر، سرح وسهم، وانتابه ذلك الذهول الفنى الحاد الذى ينتابه فى بعض المناسبات وليس أنسب من هذه المناسبة للذهول الفنى الحاد. وهكذا راح يلعب عصاه ذات اليمين وذات اليسار، ويحدق فى وجوه الحاضرين وكأنه يحدق فى اللاشئ واللانهاية واللامعقول، أو يقول كلمة، من رابع المستحيل.

بل حدث ما هو أكثر. الجرسون اللعين تسمر أمام الأستاذ وأبى أن يتلحلح، ومضى يدعى مسح الترابيزة الممسوحة مرارا، وبركن عينه يختص توفيق الحكيم بنظراته الجرسونية المعروفة التى معناها بالعربى الفصيح: أيدك بقى على الحساب.

وهكذا، من هذه النظرات الجرسونية، ومن جمود نظرات الآخرين ومن أشياء مجهولة كثيرة رانت على الجو أدرك توفيق الحكيم كنه الفاجعة. انه مطالب بدفع هذا الحساب كله، سواء أراد أم لم يرد هو الذى ينتابه الأرق وتأنيب الضمير إذا اخطأ وعزم على صديق فى مكتبه بفنجال قهوة ودفع لفراش مجلس الفنون قرشين ثمنا له.

وانتابه غيظ جامح لا قبل له به لقد كان مستعدا ان يدفع ثمن قهوته مثلا أو حتى لو احتاج الأمر ان يدفع ثمن المشروب الأخر الذى طلبه ذلك القادم الأول، القادم الذى لا يذكر الآن أبدا انه يعرفه أو قابله أو كانت له به صلة. أما ان يتحمل حساب أناس لا يعرفهم ولن يعرفهم وليس به ادنى رغبة أو حاجة لمعرفتهم لمجرد انهم جلسوا فى المكان الذى يجلس فيه، فشئ يفجر الدم فى الشرايين.. لقد كان فى الطريق الى الخروج حين توافدوا ولم يقعد معهم أكثر من عشر دقائق، أيدفع فى سبيلها خمسة جنيهات "إسرين" قرشا فى حين أنه لم يطلب لأى منهم شيئا، هم الذين طلبوا بأنفسهم ولأنفسهم، فما ذنبه هو وأية ساعة نحس تلك التى جعلته يطأ بقدميه عتبة شبرد فى تلك الليلاء.

اغتاظ الأستاذ توفيق الحكيم جدا. وأحس بالحنق يكتم أنفاسه حتى كاد يصرخ بأعلى صوته ومن هول ما يحس به: والله مانا دافع واللى معاكم اعملوه ولكنه آثر الحسنى والتروى، واعتقد أنه قابل الأمر بتشاؤم سريع لا مبرر له واعتقد أنه لأنه يخاف دائما من عفريت الحساب سيطلع له، فى حين أنه لابد ان يتحرك أى واحد منهم أن آجلا أو عاجلا أو يتحركوا كلهم ويمدوا أيديهم إلى جيوبهم وينتهى الموقف نهاية متفائلة سعيدة ولا يصبح هناك محل لما تصوره من مأساة.

ولكن المشهد طال وزاد عن حده، والجرسون واقف أمامه مباشرة، والجالسون ينظرون فيما حولهم بهبل واستعباط يتجاهلون وجوده كلية لإحساسهم أنه مطالب وحده بالدفع، ويقينه التام من أن شيئا كهذا لا يمكن أن يحدث، حتى لو شنقوه لن يدفع أبدا مثل ذلك الحساب.

والوضع هكذا يطول، ويمتد ويبقى لا حل له، ولا بادرة بحل، ومع هذا فهو مستمر، وكأن ثمة قوة كونية غير منظورة قد أوقفت الزمن عند هذه اللحظة الحرجة وأبت أن تحركه قيد أنملة.. وبدأ الأستاذ توفيق يختنق، أحس بالغيظ القاهر الشديد يضع أيد قاسية حديدية تلتف حول عنقه وتمضى تضغط وتضغط وهو عاجز تماما عن مقامتها أو الكف عن الغيظ، الجرسون أمامه بعينيه المطالبتين فى إلحاح اصبح وقحا مصرا خارج عن حدود الأدب والجالسون متشاغلون والزمن ثابت لا يتحرك.

والموقف يتأزم، وهو يختنق ويتفصد جسده عرقا ويختنق، ويتأزم وينتفض محاولا أن يقف أو يجرى أو يتحرك، وقوى كأنها نفس القوى الكونية تبقيه فى مكانه وتشله تماما عن إبداء أى حركة، وأخيرا جدا وبما يشبه المعجزة الشديدة الصعوبة وجد نفسه يرى، وكأن ما رآه ظلاما لا أثر فيه لشبرد أو الجرسون أو الجالسون، والأهم من هذا لا حساب بالمرة فيه.

وحين أوقد النور وجد نفسه فوق فراشه فى حجرة النوم، ولكنه أبدا لم يطمئن إلا بعد أن قام وتحرك، أشعل النور وأطفأه مرات ليتأكد أن ما حدث لم يحدث أبدا، وأنه كان حلما بل كان كابوسا مخيفا لا يدرى سببه ولا علة مجيئه على تلك الصورة الخانقة.

وحين أدرك دون ادنى شك انه كان حقيقة مجرد كابوس أحس براحة حقيقية متصاعدة من أعماق صدره وانتابه فرح غامر وكأنه أخذ البراءة لتوه أو نجا من حادث خطير.

وحتى لا يتكرر الكابوس استعاذ بالله من الشيطان الرجيم. وقرأ آية الكرسى، وغير الجنب الذى كان ينام عليه، وعدل من وضع المخدة حتى تريح رأسه، ثم ابتسم ابتسامة سعادة غامرة ونشوة. وفى براءة الأطفال نام».

 

(229) مجلة بناء الوطن، يونيو 1963.

 

 

موارد نصيــة

د. عبير سلامـة

نداهة الكتابة

نصوص مجهولة في إبداع يوسف إدريس

المحتــوى

1. بدايــة

2. مفيستـو والتزام الكتابـة

3. تعديل أزمات الثعلب

قصة الورقة بعشـرة

قصة القديسة حنونـة

قصة جيوكندا مصرية

نص المستحيـلان

رأس المثلث الرمادي

قصة المثلث الرمادي

4. موهبة النظير في القصص المجهولة

قصة أنشودة الغربـاء

قصة لعنة الجبـل

قصة نهاية الطريـق

قصة قط ضـال

قصة القبـور

قصة تمليذ طـب

قصة مجرد يوم

قصة الكابـوس

قصة (قصة مصرية جدا)

5. نداهة الكتابـة

قصة (طابور خامس) لمحمد يسرى أحمد

قصة (النداهة) لسليمان فياض

6. قصة المقالات وحدود التجريـب

7. بداية أخـرى

8. ببليوجرافيا قصص يوسف إدريـس

 
 
 
 
جماليـــات إضــــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع مـوارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.