د. عبير سلامـة

6- قصص المقالات وحدود التجريب.

 

كتب الشاعر نجيب سرور إلى يوسف إدريس رسالة يرجوه فيها أن.."يكف عن كتابة المقالات المتسرعة التى يتورط فيها مكرها أو تطوعا فى الكثير من المناسبات وأن يفرغ ما لديه من مشاعر وأفكار فى قصص قصيرة أو طويلة أو فى روايات ومسرحيات، فهذا أجدى كثيرا وأبقى على الزمن مما يكتب من مقالات - فى أية مناسبة ولأى اعتبار - لأنه يتيح للمشاعر والأفكار فرصة النضج، كما يهييء قدرا كبيرا من المراقبة للنفس والفكر والسيطرة على الحرف والكلمة والعبارة! كذلك حتى لا يحشر نفسه وتلامذته وقراءه فيما لا جدوى منه وفيما يستطيعه غيره".([1])

يستطيع بالطبع من كان يعرف الراحل نجيب سرور أن يتصور طبيعة رد فعله لو شهد وقائع نشر يوسف إدريس لهذه المقالات بوصفها إبداعا خالصا، فى مجموعاته القصصية المنشورة منذ مطلع الثمانينيات، خصوصاً مع تناول عدد من أبرز النقاد لها نقديا باعتبارها قصصا تجريبيا، وتصنيف كربر شويك ود.حمدى السكوت لها ضمن القصص التى نشرت بدوريات، فى الببليوجرافيا التى أعدها كل منهما لأعمال إدريس.

ليس السؤال محاولة لحصر ما لا يحد، لكن.. هل للتجريب حدود؟! متى يجرب الكاتب ولماذا؟!

سيفضل من تقع فى يده نصوص شباب لم يقرؤوا قصصا بغرض معرفة النوع وتاريخ تطوره محليا وعالميا - أن يكون التجريب درجة عليا فى سلم إبداع الكاتب، ومرحلة طبيعية تأتى بعد ممارسات ناجحة، أو خبرة نظرية - على الأقل - بالإطار السائد للنوع. ليس الإنجاز التراكمى من الشكل التقليدى، عند توفر الخبرة النظرية به، شرطاً لازماً لإثبات القدرة المعيارية، وإن كان ضروريا، فى تقديرى، للتفرقة بين التجريب الأصيل والادعاء. فماذا عن تجريب يوسف إدريس فى القصة المقالة؟!

نحتاج للحكم على تجريب إدريس إلى تحديد مفهوم ما للفرق بين الأصالة والادعاء، ولا مفر هنا من عرض مفهومى الخاص، ويحدده الاحتراز التالى: ألا يكون التجريب اضطراريا أو نفعيا.

من المعروف عن إدريس أنه تعرض لأزمة التوقف عن كتابة القصة فى السبعينيات، وأن الكتابة كانت عمله الوحيد ومصدر دخله، بعد أن ترك ممارسة الطب منذ الخمسينيات. ويعنى هذا أنه احتاج للمواءمة بين الموقفين، فتوصل لصيغة كتابية تفى بالغاية النفعية، وتنفى احتمال العجز الإبداعى.

يتجه هذا الاستدلال للحكم بالادعاء، لكن النظر فى القصص المجهولة لإدريس سوف يخفف من تأثيره، فما وصف فى إبداعه بالقصص التجريبى توجد له إرهاصات مبكرة جدا فى نص (تلميذ طب).

يعبر نص (تلميذ طب) عن محاولة قديمة لاختراق النوع القصصى، وتفكيك تماسكه بإدخال عناصر من خارجه عليه. وهو ليس قصة إلا بالمعنى الذى جادل يوسف إدريس كثيرا فى السنوات الأخيرة من عمره، ليقنع الآخرين بقبوله بديلا عن مستوى قصصه المدهشة بمضامينها المتوهجة ومعمارها المحكم الدقيق، إنها القصة المقالة والحكاية والسيرة، يقدم فيها تجارب حقيقية، شخصية أو عامة، بطريقة حكائية لا تختلف كثيرا فى خصائصها السردية عن القصة الفنية الخالصة، غير أنه يكون مباشرا فى عرض القضية
أو المشكلة بأسبابها وظواهرها وأحيانا خيارات حلولها.

لكننا، بعيدا عن الظروف النفسية التى أحاطت بكتابة القصص الأخيرة، سنحاول أن نتأمل الأمر من وجهة نظر تجريبية خالصة، فننظر فى نضج ملامح التجريب الإدريسى بين نصى: تلميذ طب 1954، ويموت الزمار 1981، مع اعتبار الأول نصا تداولياً pragmatic text والآخر نصا شبه تداولى.([2])

المقال نص تداولى، يطرح للتداول على نطاق جماهيرى واسع ومتنوع لغاية إشارية حقيقية، حيث يوجد المشار إليه خارج النص، ويسهل التمييز بين قصد الكاتب وتعبيره، ويمكن من ثم تصويب الإشارات الحقيقية فيه، أو التجربة الواقعية بمعرفة المتلقى للحقائق والواقع.

والقصة إنشاء حر غير تداولى، وظيفة اللغة فيها إشارية مزيفة، إذ لا يوجد مشار إليه خارج النص، بل ينتجه النص نفسه باستقلال ينغلق على عالمه، بحيث لا يمكن اقتطاع جزء مما يخصه ونقله إلى السياق العام للمعرفة فى العالم الواقعى، بغية تصويبه باستخدام معلومات مستمدة من ذلك السياق.([3])

أما النص شبه التداولى فلا يحرص كاتبه على تطبيق مفاهيمه النوعية المستقرة، وتتصف ارتباطات المفاهيم فيه بالانفتاح على إمكانات أخرى لتنظيم الخبرة الواقعية وتوصيلها، مما يجعل الإطار الفنى للنص منطويا على وحدة مخصوصة بين العناصر الإشارية والعناصر غير الإشارية.

برزت فى قصص المقالات محاولة إدريس انتهاك حدود الإطار الفنى للقصة، بالتزام الواقعية القصوى أو المحاكاة المطابقة، لتجور تفاصيل الحياة على حدود الفضاء الفنى من غير أن تحطمها تماما، مثلما نجد فى مفتتح قصة (أنا سلطان قانون الوجود) حيث يقول إدريس.. "لا أعتقد أن أحدا – خارج أسرة مدرب الأسود محمد الحلو – قد حزن لمصرعه مثلما حزنت. ذلك أن القدر ليلتها ساقنى لأدخل السيرك، وكانت ليلة الافتتاح، ولا أعرف لماذا؟ ولكنى بعد رؤيتى لعبة الأسود تنبأت أن حادثا جللا لابد سيقع وأن قاهر الأسود محمد الحلو سيصرع على يد أو (ناب) أحد أسوده".([4])

وهذه المحاولة مدفوعة برغبة إنتاج نص شبه تداولى، غايته التقريب بين عالمى التمثيل والواقع، وتحقيق أكبر قدر ممكن من الصدق فى التمثيل، وفى سبيل الصدق لا يبذل الفنان جهده كله، لحماية صوره - التى أصبحت رموزا - من الانزلاق عن قواعدها الجمالية والامتزاج بالحياة، شأنها شأن العناصر الأخرى المماثلة لها.([5])

يطرح إدريس فى نص (تلميذ طب) المفارقة بين آمال دارسى الطب والشائع عن المهنة والأطباء، وحقيقة أوضاع الدراسة البائسة والعمل، الطرح من منظور السخرية الهادفة، للإيحاء بضرورة التغيير، والعلاقة بين الطرح والواقع واضحة، تجبر القاريء على تجاوز حدود النص لعرضه على خبرته، وسد الثغرات المتعمدة، لكن السمة الجوهرية التى صار بها النص تداوليا هى أن الموقف المطروح له نتائج حقيقية قد تقع على الكاتب، ممن تعرض لكشف ممارساتهم السلبية، لذلك وقع إدريس على النص بالحروف الأولى من اسمه.

ويعرض نص (يموت الزمار) تجربة كاتب تعرض لأزمة الشعور بعدم جدوى الكتابة فقرر التوقف عنها، لكنها كانت أساس وجوده ولما نفاها أوشك أن ينفى وجوده ذاته. الحالة المعروضة، بالتفصيل فى النص، إشارية واقعية، فهى من الأمور المعروفة عن يوسف إدريس،([6]) لكن ربط الإشارة إلى المشاهد الحقيقية بالنص القصصى يدمجها فى الإطار الخيالى المغلق للقصة، فكأن إدريس يحول الحقيقى إلى خيالى بإدراجه فى سياق مؤلف، وهذه مهمة مغايرة لما كان يفعله فى النصوص القصصية غير التداولية، حين كان يجعل الخيالى المبتكر جزءا من خبرة القاريء بالحقيقى.

نحتاج شاهدا آخر على تحول الحقيقى إلى خيالى فى نص محدد نوعيا، ونجده فى أحد الحوارات الصحفية مع إدريس، يقول: "والدى كان عنده قدرة غريبة على رواية الحدوتة والحكاية... إذا شهد فى محكمة مثلا وعاد إلى البيت لا نجلس لتناول الطعام حتى يحكى لنا كل ما شهده فى المحكمة، وكان عند والدى هذه القدرة على الحكاية التى لا أستطيعها رغم كتابتى للقصة".([7])

المشهد نفسه موجود فى قصة (اليد الكبيرة) ونصه: "وطريقته فى الكلام تأسرنا وتخلب ألبابنا. يكون قد ذهب إلى المحكمة مثلا وأدى الشهادة ويقص هذا علينا، ونحب قصته فهو يبدأ من اللحظة التى نريده جميعا أن يبدأ منها ويقص علينا التفاصيل المثيرة الدقيقة ويسرح بنا ويدخل فى حكاية أخرى، ولا نحس أن حكاية بدأت وأخرى قد انتهت، إنما نحس أننا سعداء وأننا نحب أبانا ونعبده".([8])

الفرق فى القصة، أنه تم توصيف قدرة الأب على الحكى، بالبدء من نقطة مهمة، والعناية بالتفاصيل المثيرة وتداخل الحكايات بسلاسة. وهو توصيف فنى دقيق، وغير لازم للنص الخيالى، بل يحتاجه النص الواقعى، مع ذلك الاعتراف "المتواضع" من الكاتب بالعجز عن مشابهته، وحاجة قاريء الحوار، بالتالى، لمعرفة جوانب النقص. ولا يعنى هذا التبادل بين ضرورات النصين المتوقعة سوى اتحاد موقعى الحقيقة والخيال فى مفهوم إدريس لهما.

يستخدم إدريس فى نص (يموت الزمار) بضع بنيات توثيقية وسياسات سردية ماكرة، توجه القاريء إلى تجاوز حدود النص عند قراءته فى صحيفة بطريقة مختلفة عن نمط التوجيه اللازم عند قراءة النص نفسه فى كتاب يحتوى على قصص غير تداولية، فالنص فى الصحيفة غير مسبوق بالإشارة المعتادة إلى كونه قصة قصيرة، أو قصة مصرية، والمفتتح يحث القاريء على تحويل القصة إلى وهم الواقع، والاقتناع بأن الصوت السارد فيها يشير إلى شخص واقعى متعين لا شخصية قصصية متخيلة..

"تقريبا كل ما كتبته من قصص ونسبته إلى نفسى أو قمت فيه بدور الراوى، كانت كلها أبدا لم تقع لى، إلا هذه القصة فأنا فعلا فيها الراوى وما حدث فيها حدث لى. ولقد حاولت المستحيل لكى لا أكون أنا أنا أو لكى يكون الحادث وقع لغيرى، وكان ممكنا أن تكون أروع وأكثر إمتاعا ولكنى بينى وبين نفسى كنت أحس أنى سأكذب بالضبط مثلما كنت حين أتقمص أنا شخص الراوى فى قصص أخرى، معظمها أبدا لم يحدث لى، كنت أحس أنى أكثر صدقا مع الآخرين ومع ذاتى.

إنها إذن قصة خاصة جدا، أعرف أن كثيرين سيهزون أكتافهم حيالها ويقولون:

ومالنا ولهذا القول الذاتى الخاص، ولكن، من يدرى، ربما لن أعدم واحدا يحس ذاته تماما وهو يرانى أتحدث عن ذاتى"([9])

النص طارد للاهتمام ببنيته اللغوية، ولا تؤول أدبيته إلى فنية نوعية عدا الحكاية الحرة([10])، والسمة الغالبة عليه هى الاستطراد، حتى فى أشد اللحظات إثارة، كلحظة فحص السارد طبيا بعد إصابته بالجلطة..

"وكان لابد من إعادة الفحص. وأوضع من جديد تحت شقى الرحى ولكن أى رحى أية غرفة تلك التى أنا فيها؟ حين تخرجت من كلية الطب كانت الآلة الهندسية الوحيدة التى نعرفها هى جهاز أشعة اكس وجهاز إصدار الأشعة فوق البنفسجية. ما أراه طب مختلف تماما وفرع جديد اسمه الهندسة الطبية يتطور بسرعة الصاروخ... إلخ".

سيخرج قارئ نص (يموت الزمار) فى الصحيفة بنتيجة كلية هى أن الحالة المعروضة تخص يوسف إدريس نفسه، ويفترض قبول الكلى قبول ما يندرج تحته من جزيئات، مثل أن التوقف عن الكتابة مثلا كان قرارا اختياريا بإرادة تامة لا عجزا كما يصوره الشامتون.

وهى النتيجة نفسها التى سيخرج بها قارئ النص فى كتاب بين سياق من القصص المتخيلة، لكن عبر طريق مختلف، فعدم الإشارة إلى نوع النص أو أسبقية نشره فى صحيفة، يوجه القارئ تلقائيا لاستقباله بوصفه قصة متخيلة يستخدم كاتبها إجراءات نصية متطورة، كإسقاط الحاجز المفترض بين الكاتب والقارئ، وتداخل الخبرات الواقعية مع الفنية فى نص أيقونى، يحاكى ما هو خارجى ويجسد خصائصه مثلما تجسد اللوحة المرسومة لإنسان ملامحه.

نفى إدريس وجود مرحلة (الحمل بالفكرة) فى مراحل العملية الإبداعية عنده، لكنه نفاها اسما فحسب لا معنى،لأن كمون الفكرة فى وعيه ثم نشاطها، أو تنشيطها، بعد سنوات لا يعنى سوى اشتغال العقل على هذه الفكرة فى الخفاء. ويترتب على هذا الاشتغال اختلاف النص الإبداعى عن المثير الحقيقى، إما فى جوهره وإما فى شكله، وقد يختلف الشكل والجوهر معا، ولا نستطيع تحديد حجم هذا الاختلاف وقيمته إلا إذا قمنا بالموازنة بين أصل المثير الحقيقى كما دونه الكاتب، والقصة التى تولدت عنه.

منحنا يوسف إدريس هذه الفرصة النادرة لإجراء الموازنة حين كتب فى عمود (يوميات) بجريدة الشعب (13 يوليو 1959 ص5) عن واقعة حقيقية شهدها، ثم حولها إلى قصة قصيرة بعد ست سنوات ونشرها بعنوان (قصة مصرية جدا) وهى من القصص التى لم تنشر فى أية مجموعة، وسبقت فى فصل (القصص المجهولة)، لذلك سأكتفى هنا بإثبات نص اليوميات.

«هذه الواقعة شاهدتها بعينى. كنت فى الأتوبيس حين صعدت راكبة جديدة إلى العربة من باب الدرجة الأولى. وكان واضحا أن الصاعدة ليست من راكبات الدرجة الأولى، فقد كانت ترتدى جلبابا اسود طويلا وتلفع طفلا على كتفها بينما طفل آخر ممسك بكلتا يديه بذيل ثوبها وكأنه لو تركه سيموت. صعدت المرأة، وظلت تزق تنزق وتدفع وتتدافع بينما طفلها راكب الكتف يصرخ، وطفلها المستميت على الثوب يسبها ويلعن أياها ويبكى، حتى بلغت منتصف الدرجة الأولى ثم لم تستطع بعد هذا حراكا. والعادة جرت أن ركاب الدرجة الأولى ما يقادون يضبطون واقعة كهذه حتى تتنبه فيهم غريزة الكمسارية الطبقية فيتطوع أكثر من واحد منهم بقوله دى درجة أولى ياست خشى جوه..

ولكن أحدا لم يقل لها هذا لا لان الراكبة الصاعدة كانت جميلة او ذات سمنه أو مؤهلات أخرى، فقد كانت عادية جدا لا يميزها عن غيرها من مرتديات السواد، ولافعات الأطفال إلا أن انفها – دونا عن بقية وجهها كان احمر شديد الحمرة – هكذا لله فى لله وكأنما ولدت به مسلوخا ربما لم يقل لها أحد شيئا لأنهم أحسوا أنها هى الأخرى مضطربة وشاعرة بالذنب لوجودها فى درجة غير درجتها، أو لعل السبب انهم تركوا مهمة تنبيهها للكمسارى الحقيقى حين يجئ..

وجاء الكمسارى أو بالأصح نفذ فجأة من بين أجساد الركاب المتلاحمة مع انه كان تخينا اصلع يرتدى بيريه. وما كاد يلتقط أنفاسه ويلم نفسه ويزيل عن وجهه قرف الدرجة الثانية ليطليه بابتسامة تليق بالدرجة الأولى حتى تنبه إلى وجود المرأة. والعجيب أنه لم يفتح لها محضرا كالعادة ويأمرها قبل أى شئ بمغادرة البريمو والذهاب إلى السكندو كل ما حدث أنه دق على لوحته الخشبية مرة ثانية. وقال: تذاكر. وتوجه بالكلمة إلى المرأة دون غيرها من الركاب، بل قبل أى من الركاب وكانت هى الأخرى تتوقع هذا فقد فردت كفها اليمنى المطبقة على شئ ومدتها إليه. ودون أن يلتقط ما فى يدها او يتفحصه عرف الكمسارى انه نصف قرش، وعرف أنها تريد تذكرة درجة ثانية، وعرف أيضا أن لابد من قرش كامل ليقطع لها التذكرة وأن عليه أن يتقاضى عن فارق الدرجتين. عرف كل هذا بلمحة عبقرية خاطفة. وكذلك عرفه ركاب الدرجة حتى دون أن يلتفتوا. بل المرأة هى الأخرى عرفته. وقبل أن يتكلم أحد قالت بلهجة صادقة ليست فيها شائبة كذب واحدة: والنبى ياخويا ما معايا غيره. ولوى الكمسارى رقبته اشمئناطا كالمحاضر الذى فلق رأسه طوال اليوم بل طوال العمر، يعيد نفس الدرس وقال: يا ستى عايزين تعريفه كمان. ولوى ركاب الدرجة الأولى رقابتهم هم الآخرون، واستعدوا للجدل السخيف الذى لابد أن ينشأ خاصة وأن الأتوبيس كان لا يزال واقفا فى المحطة لم يتحرك بعد، والكمسارى قد وضع الصفارة على فمه استعدادا لصفارة طويلة يأمر بها السائق ألا يتحرك، ومن يدرى، قد يؤدى الأمر إلى الذهاب إلى القسم وضياع ساعات.

ولكن المرأة لم تجادل أو تحاور، بل حتى لم تنظر هنا وهناك لتتعرض ركاب الدرجة الأولى الأفندية وتنتقى أحدهم. فعلت شيئا لا يمكن أن يحدث إلا فى مصر. مدت كفها المفتوحة بالنصف قرش إلى الأفندى الواقف بجوارها مباشرة، فعلت هذا من سكات، ودون أن تتكلم أو تطلب، مدتها هكذا وفى ملامحها ثقة ما بعدها ثقة انه لن يخذلها وكأنها تعرفه من سنين، أو كأنها ركبت العربة معه. ثقة لا يفترض الإنسان وجودها إلا فى أخ أو صديق.

ومن سكات أيضا، وبلا أى دهشة أو استنكار، وكأنه فعلا أخ أو صديق مد الرجل أصابعه فى جيب سترته الشار كسكين الناصعة البياض واستخرج نصف قرش، ووضعه بكل بساطة فى الكف الممدودة المفتوحة. وببساطة أيضا انتقلت الكف من قرب الأفندى إلى قرب الكمسارى.. وتناول الكمسارى القرش، وقطع التذكرة، وصفر وتحركت العربة».

*** *** ***

اليوميات مرحلة أولى فى كتابة السيرة الذاتية، حيث يقوم الكاتب بتسجيل تاريخ اليوم وأبرز ما وقع فيه من أحداث، بدون تعليق عادة، لحفظها من النسيان والاستعانة بها بعد ذلك فى المرحلة الثانية، وهى المذكرات حيث تمتد مساحة الكتابة بنقد الأحداث، ورصد دور الأفعال والأحاسيس، ثم تأتى المرحلة الأخيرة، وهى السيرة، وفيها يربط الكاتب بين ماضيه وحاضره بنظرة كلية واعية راصدا الدوافع والأهداف، ومحللا السلوك والمشاعر والأفكار، لتقييم تجربته الشخصية والخروج منها بدلالات إنسانية.

الكاتب فى اليوميات الشخصية هو البطل الفاعل، وجهة نظره هى الغالبة، اللغة غير مدققة، والأسلوب مختزل وعار من النضج والجمال غالبا. السرد من الخارج لا ينفذ إلى وعى الشخصيات المذكورة أو وعى الكاتب نفسه، والتحديد الزمنى حاضر دائما.

تختلف اليوميات الصحفية عن اليوميات الشخصية فى أن الأولى متقطعة، غير متواصلة حتى لو كان للكاتب عمود ثابت فى الصحيفة. وتكتب اليوميات الصحفية لغاية موضوعية وتوجه لقارئ عام، لذلك يركز الكاتب فيها على فكرة واحدة، مشهودة أو منقولة، يعرضها بلغة سليمة وأسلوب واضح. وتخضع دائما لانتقائية يحكمها شكل، وحجم، تفاعل الكاتب مع مجتمعه وعصره.

الواقعة التى قدمها يوسف إدريس لقراء "الشعب" حقيقية، شهدها بنفسه، والفكرة فيها غياب الوعى عموما، والوعى الطبقى خصوصا، من وجهة نظر كاتب تقدمى. فالمرأة الفقيرة جاهلة تنوء بالأعباء، ولا تحسن حتى المهمة الرئيسية التى تقوم بها، مادامت قد أساءت تربية الطفل الذى "يسبها ويلعن أباها".

وهى تقدم على الفعل دون تبرير، ولا تسأل عما لا تعرفه، تتصرف ببلادة محيرة، وتختار حلا للمشكلة ينم عن عدم وعيها وكسلها، إلى حد تفضيل امتهان كرامتها وإحراج الآخرين على السير بضع خطوات إلى الدرجة الثانية فى العربة. يقهر الكمسارى فى اليوميات أهل "السكندو" ولو بالتأفف والضجر، ويتملق من فى "البريمو".

وركاب الدرجة الأولى "الأفندية" شامخون بطبقتهم، لكنهم لا يعترضون على وجود المرأة، ربما لإحداث التمايز الطبقى اللازم لإرضاء تشامخهم، ومع ذلك فليسوا سواء، إذ لن تعدم بينهم المتعاطف مع بؤس الآخرين، والسلبى غير المبالى، والعابث الساخر، والمهذب المشفق الذى لا يرد سائلا.

تتداخل السيرة الذاتية، إذا كتبت بشيء من الحرفية، مع نوع الرواية فهل نستطيع القول بالمقابل إن اليوميات تتداخل مع نوع القصة؟ قد يستخدم الكاتب اليوميات الشخصية فى الرواية لغاية تقنية، لكن القصة فى تقديرى لا تحتملها، فمنطق السرد فى النوعين يختلف، والفكرة نفسها تحتاج إلى تطوير إذا أراد الكاتب تحويل اليوميات الصحفية إلى قصص، مثلما فعل يوسف إدريس.

حذف إدريس من نص اليوميات صيغة تأكيد رؤيته للواقعة، وصوته السارد بالضمير الأول، أى قطع النص عن شخصيته، وصدره لسارد افتراضى سيدرك القارئ تلقائيا أنه أحد ركاب الدرجة الأولى، وأنه يجلس فى موقع يمكنه من رؤية كل العربة بوضوح، ولديه من الفضول ما يغريه بالمتابعة الدقيقة لكل ما يحدث.

حذف أيضا ما أوحى بتصور سلبى عن شخصية الكمسارى، وأضاف ما يوحى فى القصة بصفات المرح الطبيعى، وخفة الظل التى تيسر له كل صعب، ثم حذف فى النهاية ما ينم عن عفوية مساعدة الرجل للمرأة وبساطتها، وأضاف ما يوحى بدلالة هذه المساعدة على الخلق الطيب والسلوك اللائق.

نستطيع أن نستكشف ما أصاب الفكرة من اختلاف إذا تأملنا حالة العربة عند صعود المرأة فى النصين، ففى اليوميات كانت العربة واقفة، لم تتحرك من المحطة بعد، وفى نهاية الواقعة تحركت، بعد أن عرفت المرأة ما يكلفها انتقالها من "درجتها" وعرف الركاب أنهم لابد أن يتعاونوا إذا أرادوا ألا يتعطلوا.

وفى القصة تحركت العربة، وتوقفت فى الطريق لتصعد المرأة، ثم نشأ نتيجة وجودها فى غير مكانها المناسب لإمكاناتها – تهديد بتوقف العربة، وضياع وقت الركاب وراحة نفوسهم، لو استمروا جميعا لا يعترضون على الخطأ جهرا، أو لا يتجاوزون التعاطف الصامت بالمساعدة العملية. ولما استجاب واحد منهم للطلب متفهما الموقف كله زال التهديد، واستمرت العربة متحركة.

يطرح إدريس فى هذه القصة فكرة عدم التحديد الطبقى فى العربة / المجتمع من منظور مركب، فهو فى النص مع ضرورة التحديد، نظرا لما يترتب عليه من انتماء موجه لنفع الطبقة الخاصة، وعدم انفصال بين الطموح والواقع. وفى الوقت نفسه لا يعترض على الحركة بين الطبقات أو مغادرتها، لكنه يشترط امتلاك مقومات هذا التحرك أولا.

الركاب ليسوا سواسية، أخلاقيا وماديا، هذه حقيقة اجتماعية، لكن ذلك ليس مبررا لإيقاف العربة والإضرار بمصالح الجميع، إنما ما يحتاجه المجتمع حقا هو انسجام بين المتعدد، ووحدة تستوعب التعدد ذاته. ليس الاختلاف فى الفكرة بين النصين إذن جوهريا، وعلى المستوى الظاهر مازال الأسلوب يحتاج إلى تعديل إضافى، وسبب ذلك فى تقديرى أن إدريس لم يكن يحول نصا واقعيا الى نص خيالى، بل يعدل نصا خياليا كتبه فى اليوميات بقلم قصصى.

لا يعتبر إدريس - فى إحدى إفاداته المحيرة عن الكتابة - ما يكتبه قصصا، إنها كما يقول رؤى: " تخطر لى، وليس لى إلا فضل تسجيلها. بل إنى لأعجب أحيانا حين يطلقون على ما أكتبه عنوان "قصة" إذ إنى لا زلت للآن لا أعرف ما هى القصة. صحيح: ما هى القصة؟ إنها ليست أبدا الحكاية، ولا القصيدة، ولا المغزى، ولا موسيقى النثر، ولا لوحة ألوانها الكلمات. إنى ربما أكتب كمحاولة منى لأن أعرف فى كل مرة بالضبط. ما هى القصة؟".([11])

ربما لذلك، وبسبب تلك الحيرة فى الإمساك بمفهوم ثابت للقصة، نجد - بتأمل بعض اللزوميات فى أسلوبه الفنى - أنه يعتبر القصة حكاية ومسألة وأحداثا مروية ولوحة سردية، باتساق مع تصوره الخاص، وطموحه لكتابة قصة مصرية، وهذا هو الإطار الذى ينبغى التعامل مع قصصه فى حدوده، مع تقدير تفاوت القيمة الفنية لهذه القصص على مدى تاريخه الإبداعى الطويل، وعدم الثقة فى تواريخ نشرها، أو الاعتماد على هذه التواريخ لاستخلاص نتائج نقدية تتصل باتجاهات إبداعه ومراحله تطوره.

تبدو مسألة التطور مناسبة للعلوم الطبيعية أو الظواهر العلمية أكثر من الأدب، إذ إن نماذجه الكبرى تتشابه، وتمثل وحداته غالبا نقاطا متباعدة ليست على خط واحد منتظم، من هنا يمكن النظر إلى مقولة التطور حيثما وردت فى سياق نقدى باعتبارها مؤشرا على لون من التغير فحسب، قد يكون ارتقاء وقد يكون انحدارا، وتحديد حجم هذا التغير ونوعه هو ما ينأى بالتاريخ الأدبى عن أن يكون توثيقا جافا وبالناقد عن أن يكون مؤرخا، لأن هذا الجانب لا يمكن التجرد فيه من سمات التذوق الشخصى، المسبقات الثقافية، والمسالك الفكرية والنفسية المطروقة، إذا أردنا رصد التغيرات الدقيقة للقدرة الاستيعابية والدلالية فى النصوص.

 

(257) انظر: فارس على حصان من خشب (فى رسالة إلى يوسف إدريس)، مجلة الفكر المعاصر، مايو 1979، و"فارس على حصان من خشب " عنوان مجموعة قصصية لعبده جبير، يقدمها نجيب سرور فى الرسالة ـ مع كثير من التلميحات الشخصية والثقافية ـ إلى يوسف إدريس باعتبار جبير واحدا " من كثير من الموهوبين الشباب يتنفس بصعوبة فى مناخنا الثقافى وفى ظل غيبة النقد وتجاهل أجهزة الإعلام ".

(258) المستوى التداولى أحد الظواهر السيميائية، وتدرس فيه العلاقة بين النص والجمهور الذى يتوجه إليه " ويمكن القول إن البنية التأليفية للعمل الأدبى تتنبأ ببعض استجابات القاريء على نحو يجعل المؤلف يدخل فى حساباته ردود الأفعال هذه، ويبدو كما لو أنه يبرمج هذه الاستجابات المختلفة " انظر: بوريس أوسبنسكى، شعرية التأليف " بنية النص الفنى وأنماط الشكل التأليفى، ترجمة سعيد الغانمى وناصر حلاوى، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومى للترجمة (79)، 1999، ص 138.

(259) انظر: كارلهاينز ستيرل، قراءة النصوص القصصية، ترجمة نشوى ماهر، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مجلد 12 العدد الثانى 1993، ص 47 وما بعدها.

(260) مجموعة (أنا سلطان قانون الوجود)، مكتبة مصر، القاهرة، د.ت، ص 5.

(261) انظر: شعرية التأليف، ص 150- 151.

(262) التوقف عن الكتابة، والأزمة الصحية التى تعرض لها فى عام 1981.

(263) انظر: محمد سعيد، حوار مساحته الزمنية ربع قرن مع يوسف إدريس، مجلة الهلال، أغسطس 1979، ص 38.

(264) مجموعة حادثة شرف، ص 57.

(265) يموت الزمار، سابق.

(266) استخدم مصطلح الحكاية بما يوحى به من شفاهية وارتجال وتقليد، للتعبير عن القص المتخفف من العاطفة والفكر المتعمق، والمحتفى إلى أقصى حد بالتتابع الزمنى.

(267) مواقف ثقافية، ص 469، 470.

 

 

موارد نصيــة

د. عبير سلامـة

نداهة الكتابة

نصوص مجهولة في إبداع يوسف إدريس

المحتــوى

1. بدايــة

2. مفيستـو والتزام الكتابـة

3. تعديل أزمات الثعلب

قصة الورقة بعشـرة

قصة القديسة حنونـة

قصة جيوكندا مصرية

نص المستحيـلان

رأس المثلث الرمادي

قصة المثلث الرمادي

4. موهبة النظير في القصص المجهولة

قصة أنشودة الغربـاء

قصة لعنة الجبـل

قصة نهاية الطريـق

قصة قط ضـال

قصة القبـور

قصة تمليذ طـب

قصة مجرد يوم

قصة الكابـوس

قصة (قصة مصرية جدا)

5. نداهة الكتابـة

قصة (طابور خامس) لمحمد يسرى أحمد

قصة (النداهة) لسليمان فياض

6. قصة المقالات وحدود التجريـب

7. بداية أخـرى

8. ببليوجرافيا قصص يوسف إدريـس

 
 
 
 
جماليـــات إضــــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع مـوارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.