د. عبير سلامـة

جيوكندا مصرية

 

«إنها ليست أول مرة أحاول، ربما هى ثالث أو رابع مرة، فأنا أحس كلما أردت كتابتها أن اللغة التى استعملها أخشن وأصلب وأجوف بكثير من أن تستطيع التعبير عنها، أحس أن لغتنا، تلك التى نتحدث بها ونكتب خلقت لتصوير أحداث ضخمة، وأحاسيس كبيرة الحجم كالصخر أو حتى إذا صغرت فهى كالرمل أو الحصى فى حين أن ما أريد تصويره ناعم موسيقى رقيق دقيق كأنه الذرات العالقة بشعاع الضوء إذا سقط فى غرفة مظلمة، لا، ليس حتى كعزف الكمان
أو أنين الناى، إنما هو كاللحن الذى لا تستطيع سماعه إلا إذا خفتت الضجة فى الدنيا كلها، أو سكن الكون تماما، ثم طهرت نفسك من كل ما يشغلها من هموم الأرض وأحاسيسها الترابية العابرة، واستحضرت فى ذاتك المعانى الحقيقية للرحمة والحب والحنان والإنسان، المعانى الخالدة السرمدية التى يحيا البشر على أمل أن ذات يوم تتحقق، حينئذ فقط، وبعد طول معاناة فى تهيئة النفس، وطول تأمل وسكون، ستجد نغما رقيقا واهن الضعف قد بدأ يتسرب إلى نفسك. ليس من أذنك فقط، وإنما من كل ذاتك ولكل ذاتك، يتسرب النغم تسربا لا يفعل أكثر من أن يحيل ذاتك نفسها إلى ذات النغم، حتى لتندمج معه فى وحدة بالغة الشفافية. أنى لى بكلمات تستطيع وصف هذا وكلماتنا صنعت لمعان محددة واضحة لا شك فيها ولا اختلال، أنى لى بكلمات تستطيع وصف عشر الانفعال، والواحد على المائة من الارتجافة، أو الخفقة الواهنة التى يكاد السمع يتجاوزها؟

أنى لى بألوان أستطيع بها وصف لون "حنونة" المسيحية، ذلك اللون الذى لا هو أبيض ولا قمحى لا هو أوروبى ولا شرقى، لا هو صعيدى ولا من أقصى الشمال فى بحرى، لون حتى فى مكوناته زرقة، ليست زرقة الموات ولكنها كزرقة الفجر إذا شقشق أو زرقة البحر إذا هجع وتحولت موجاته إلى نداءات وديعة تؤوب إلى مستقرها عند الشاطيء خاشعة ساجدة تهيب بك أن ترتمى بحرا وتعب زرقته حتى النهاية.

وكيف لى أن أبدأ القصة، وليس فى ذهنى بداية واضحة، إن هى إلا علاقات متصلة بين الناس، ومنشأ مشترك، وطفولة، ثم صبا، و(شال) كمونى باهت، وحجرة ليس بها أحد سوانا، وخبز مقدس، ثم إنجيل صغير الحجم كثير الصفحات، مكتوب بلغة عربية لها طعمها الخاص.

وكنت فى سن البلوغ، تلك التى تحس فيها أن هناك دنيا هذا صحيح، وهناك صبح وشمس وقمر، وهناك بلاد بعيدة بعيدة قبل البحر المالح وعبر المالح وبعد المالح، و(الطلمبات) بضخامتها السوداء الزيتية المهولة وصوتها المتئد الوقور المستمر والماء والماء المجذوب بسحر خفى وبكم هائل إلى فتحاتها والماء الهادر الغاضب المندفع الأرعن الخارج عنها، هناك العصافير، والغربان، وأولياء الله الصالحون، وهناك المصحف والآيات التى يجب التى يجب عليك حفظها وكلها عن جنة شديدة الجمال غريبة، وعن نار جحيمية يقشعر لها بدنك وثواب وعذاب ودنيا وآخرة، وهناك أيضا وهذا هو المهم المباشر، خيزرانة الشيخ مصطفى المنكفيء العمامة إلى أمام أكثر مما يجب، ذى الأرجل الرفيعة المنتهية بركب كرؤوس عيدان الكبريت، حين يضع ساقا رفيعة فوق ساق، ويتدلى حذاؤه حائل اللون، فاغر الفاه، ويهز لك رأسا فوقه تهتز العمامة ويقول: سمع يا ولد. هناك شيء ما هذا صحيح، شيء لا نراه ولا نحسه، شيء آخر غير ليلة القدر، والموت، والحب الشديد الذى أكنه لأبى، شيء بإرادته مختلف لا يريد أن يظهر، ربما خوفا علينا إذ ربما لو ظهر لنا لمتنا من شدة الخوف والرعب والمواجهة... شيء آخر أيضا غير العفاريت، فالعفاريت رغم كل شيء فيها ما يضحك، ولكن هذا الشيء لا يبعث على الضحك أبدا، إنه قاس وقور مهيمن رحيم.

قلت لعفيفة، وأنا بالضبط لا أعنى ما أقول:

ـ أريد أن أكون مثلك.

كانت لابد أكبر منى ربما بعام أو بعامين، فقد كانت أطول وإن كانت أضعف، ولكنها دائما الأعقل والأحكم، وهنا بالضبط أعجز عن التعبير، روحها ذلك الإحساس المشع منها، وكأنه النور يأتى من لا مكان أو بطريقة غير مباشرة، روحها تلك كانت تضفى على كلماتها ومشيتها، وعلى الطريقة التى ترفع أو تخفض بها يدها أو تقضم قضمة صغيرة وبأسنانها الأمامية من الخبز المقدس.. مسحة غريبة البراءة والنقاء والرشاقة تجعلك تعتقد وكأنها ليست من أهل الأرض، وكأنها النوع الثانى من البشر، ذلك الذى يصنع الحلقة الكائنة بينهم وبين الملائكة.

ولا أذكر بماذا أجابتنى، ولا حتى على وجه الدقة إذا كانت قد أجابت، وماذا أيضا قالت عن الإنجيل، والخبز المقدس، وكيرياليسون ومعناها كما علمتنى (يارب.. ارحم)، قد سمعت القسيس الآتى من المدينة يرددها فى زفاف (عفيفة) حين تزوجت منذ شهور، كل ما أذكرأنى من إجاباتها بدأت أحس أن هناك أناسا آخرين، غيرنا نحن أظن أن الدنيا كلها مسلمة، وأن هذا الدين الآخر الجديد مملوء بأشياء تثير الخيال وتبعث على حب الاستطلاع، خاصة أن لهم فى البندر - كما عرفت من حنونة - كنيسة، فيها صورة كبيرة للمسيح، وفيها شموع وثريات بالكهرباء، وفيها غناء،

ولم أعد أدرى أسر تتبعى لحنونة - حتى وهى فى طريقها إلى النوم - إن هو إن هو إلا محاولات أكثر لإدراك أشياء أخرى عن هذا الدين، أم هو استسلام لذلك الإشعاع الذى لا يقاوم الدائم الصدور عنها يجذب إليها الناس والأشياء ويحيل كل ما تصنعه إلى حدث براق ممتع رقيق مثير.

ولكن ما أعرفه أنه لا أقول بدأت أحس برباط قوى يربطنى بها وإنما بدأت فى أحيان أعى أنى لا أتركها وكأنى ظلها، إحساس كان لا يراودنى إلا فى اللحظات التى أغادرها فيها.

فواأنا معها كنت لا أحس بنفسى أو بما أفعله أبدا، فأنا ذائب تماما فى ذلك اللقاء المستمر معها، لا هم لى إلا تأملها، وتتبع ما تقوله أو تفعله، كالمشدوه بمعجزة خارقة، دائمة الحدوث، لا ينفصل عن شعوره بها ولا يبغى إلا أن يظل فى حالة النشوة المشدوهة تلك لا يغادرها أو تغادره لحظة.

ويخيل لى أن مشاكل العالم تنشأ من هنا، فنحن أبدا لا نستطيع الصبر على ظواهر الكون الكون أو التفاعل التلقائى للأحداث وعلاقات القوى والنماء وهى تنشأ وتنمو وتتفرع وتزدهر، إنما دائما بإرادتنا الحمقاء وقوانيننا التى ابتدعها أقدمون متزمتون، دائما نتدخل، فنفترض سوء النية أو حتى حسنها ونتدخل، وفى تدخلنا نحاول الفرض والكبت والتأكد المستعجل ولوى سنن الحياة..

ترى ماذا كان يضير أن تستمر علاقة كهذه، زهرة وديعة وسط غابات الطبائع والنفوس والعلاقات الاجتماعية المتشابكة المعقدة التى لا ندرى عنها شيئا.

وماذا يهم أننى ابن مهندس الطلمبات، وأن والد حنونة هو كبير الأسطوات، وأننى ولد وأنها بنت، وأن كلام الناس كثير، مع أن الناس فى (المستعمرة) التى نسكنها جميعا قليلون، كلهم لهم مساكن أقامتها لهم وزارة الرى قريبا من مبنى الطلمبات هائل الضخامة، مستعمرة ومجتمعها وطلمباتها كائنة فى مكان ما ن بعيد وسحيق من شمال الدلتا. مجتمع صغير مكون من مجموعة صغيرة - وإن كانت فى ذلك الوقت تبدو لعينى وكأنها ربع العالم - مسلمون ومسيحيون، ومع هذا فألف مشكلة قائمة، وألف شوكة تؤلم بلسعها ووخزها هذه العشرات القليلة من الحلوق فى ذلك المكان الكائن عند آخر الدنيا.

بدأ الأمر بشكاية من أمى لأبى، وأبى خاضع لأمى منذ أن قطعت ساقه أو التهمتها مروحة الطلمبات لا أعرف، فالقصة غالبا لا تروى، إذ هى دائما وكأنما تجلب معها الذكرى والألم. ومنذ أن أصبح أبى بساق واحدة أصبحت أمى بثلاثة سيقان وعشر أيد ومائة لسان.

وهكذا أوقفنى الرجل الطيب أبى ذات صباح وأنا ذاهب إلى كتاب الشيخ مصطفى وأفهمنى بطريقة لا تقبل الجدل أن على العودة بعد الكتاب إلى البيت مباشرة.

لم يشأ الرجل الطيب أن يؤلمنى بذكر حنونة وحكايتى معها، آثر أن يدع الباقى لفهمى، وأنا أيضا لم أشأ المناقشة فقد اعتزمت ومنذ اللحظة الأولى أن أخالف هذا القرار، وأكذب وأقابل حنونة، وكيف لى أن أستطيع الكف عن شيء لا أفعله بإرادتى وإنما أجد نفسى هكذا كما أجوع وأعطش وأشرب، أفعله، دونما فكر أو أرجحه للاحتمالات وأخذ قرار. إننا ونحن أطفال وصبية نكون أكثر صدقا مع أنفسنا ومع ما نريد، وما نريده يكون أكثر صدقا مع الحياة نفسها، كل ما فى الأمر أننا صغار فى عالم لا يخضع للحياة وقوانينها وإنما ينظمه ويقننه ويحكمه الكبار، ولابد دائما أن يتدخلوا، فإذا فعلوا فإنما ليجبرونا، لا لنمتنع، وإنما لنراوغ ونكذب ونكرهم كما نكره العقاب.

ولا أعرف ماذا بالضبط، وبالمقابل، حدث لحنونة، ولكنى فى مكاننا المعتاد عند "الهدار" - وهى البئر العميقة التى تصب فيها كل المياه القادمة من المصارف الكبرى، وتأخذ عنه أفواه الطلمبات الماء لترفعه بعد هذا إلى أعلى، إلى مستوى منسوب البحر الأبيض ليتم صرفه والتخلص منه، إذ الماء الجوفى فى الدلتا وشمالها أقل من منسوب البحر ولابد من ضخه إلى أعلى، ومن أجل هذا أقيمت الطلمبات. فى مكاننا عند الهدار لم أجدها. وانتظرت وتأملت كثيرا منظر الماء وهو "يهدر" فى الهدار ويدور ويصنع دوائر كبيرة تنتهى إلى دوائر أقل وأكثر انخفاضا وتدور بسرعة أشد إلى أن تصنع الدوائر حفرة على هيئة القمع يقولون إن قاعها يبلع الرجل ولا يبين له بعد هذا أثر. ولم تحضر وغير قريب من بيتهم وقفت وقد بدأت أحس أن يد الكبار غليظة حقا وأنها عملت عملها وأن اليوم الواحد العذب الممتد الطويل قد انقطع.

وفى الشباك لمحتها، كنا العصر، والشمس قد استحالت من جهنم الظهر المروعة إلى مجرد مصباح أصفر رقيق يضيء الشباك وداخل الغرفة، وفى وسط تلك الأرض الصفراء الحية بصفرتها يستدير وجه حنونة وقد أكسبته الأشعة لونا غريبا يلمع من خلال القضبان الحديدية الداكنة، لونا يحيل الوجه إلى شمس أخرى، شمس مخنوقة منكفئة الجبهة، مختبئة.

وقفت أنتظر منها إشارة أو بريق عين حتى يدل على أنها رأتنى أو أرادتنى ولكنها كانت صامتة واجمة.. كانت بالضبط صورة (العدرة) العدرة مريم، نفس الصورة المعلقة فى غرفتها معلقة الآن فى النافذة، ولابد أن ألقاها، وأنا أعرف الست (أم حنونة) وأعرف أنها وإن كان يقال إنها أشد الناس سلاطة، إلا أنها معى طيبة تعطف وكأنما بالسليقة على مزاملتى لبنتها، كثيرا ما دست فى جيبى ببرتقالة، أو حبات (بون بون) ودائما تقول سلم على الست

(أم محمد) سلاما لا أوصله، فقد كنت أعرف رأى أمى فيها، ورأيها فى أمى.

الباب مفتوح، أأدقه؟ دخلت.

أم حنونة خارجة لتوها من المطبخ وهباب الوابور على وجهها وأطراف شعرها الأبيض وملابسها، أشرق وجهها بابتسامة وكأنما أدركت سبب المجيء، أعقبها فى الحال تجمد ملامح وكانما ظهرت إلى وعيها المشكلة والتحذير، وتلعثمت وفأفات، ولكنها لم تصرح بشيء، وإنما استدارت كأنما لم تر ولم تسمع وعادت إلى المطبخ.

وما يدرينى، فقد قرأت فى حركتها تلك علامة الرضا. واندفعت إلى الغرفة كالسهم. ووجدت حنونة واقفة تبتسم وتنتظر انتظارا منخفض الرأس لا يزال وفى عينيها دون أن أراهما مكر بريء جميل كمكر المحبين. ولدهشتى أقدمت على حركة لم أكن قد تعودتها منها أبدا، مدت يدها تصافحنى، وبكل ما لدى من لهوجة مددت يدى وشددت على يدها بقوة حتى بدا أنها تالمت. كنا دائما نلتقى أو نسير أو نتحرك أو نقدم على عمل الشيء معا، أما أن نتصافح فذلك ما لم نفعله إلا هذه المرة، يدها صغيرة كانت، ويدى رغم العامين فارق السن، أكبر، يد نحيلة، بأصابع أيضا رفيعة ونحيلة، تقبض على مجموعة من أقلام الرصاص، ولكن لم تكن أقلام رصاص، كانت اليد بأصابعها حية دافئة كأنما تركزت فيها كل إشعاعاتها الخاصة لم تكن يدا. كانت قلبا نابضا دق، نفس القلب الذى سمعت دقته حين كنت أتعمد الاقتراب بوجهى من صدرها. مصافحة روعتنى وأحدثت بى مسا. قلت لها:

ـ أنت كالعدرة مريم.

رفعت حاجبها فى استنكار مذعور، ولكنها عادت تبتسم كأنما عيب ما أقول، ورغم هذا سألتني:

ـ كيف؟

قلت لها:

ـ وأنا أراك من النافذة كنت كالعدرة، بدون المسيح ياحنونة، أنت حنونة.

وكم كان يمتعنى دائما أن أناديها باسمها وكأنما أستمتع بنطق الاسم وطعمه فى فمى.أنا المسيح وأنت العدرة، خللينى مسيحك وأنت عدرتى.

كادت، بل ضربتنى على يدى فعلا، إنما برفق، تنهانى، ولكن الفكرة كانت قد استبدت بعقلى، ولم تكن بنت لحظتها، لابد أنها نبتت فى ذلك اليوم الذى كنا فيه منفردين كالعادة فى بمنزلهم، وكنت أحدق فى صورة العذراء مريم وهى تحتضن ابنها المسيح بحنان زائد، كانت ألوان الصورة قديمة وباهتة ومن رأس مريم كانت تخرج إشعاعات تذهب فى كل اتجاه، وكان عيسى طفلا جميلا جدا يبتسم بسعادة الابن المدرك أنه فى أحضان، وفى كنف رعايتها وحنانها، وكانت مريم أيضا تبتسم، شبح ابتسامة يعبر وجهها وشفتيها، وكأنها تدرك أن صورة ما ستؤخذ لها، وتريد أن تضمن الصورة ابتسامة أم سعيدة بابنها حقا..

وحين التفت أحادث حنونة أحسست على الفور أنى أريد أن أرتد طفلا، أرتكن إلى حضن حنونة وتسعد بى مثل سعادة العدرة مريم بمسيحها ولكنى، فى ذلك اليوم، وأنا أطلب منها أن تكون عذرائى وأن أكون مسيحها لم أكن أفعل ذلك وفى ذهنى أن أتحول إلى طفل صغير تحتضنه أمه، هناك، وراء سؤالى وطلبى كانت ترقد رغبة قوية قديمة عارمة، أن أحتضن أنا حنونة، آخذها بين ذراعى، وأطبق عليها، ليس بعنف وقوة، فأنا أعرف أنها رقيقة هشة، إنما بحنان ورفق ورقة أريد أن أطبق عليها، أريد بيدى إذا أطبقت وبحضنى إذا احتواها أن أحتويها تماما، أصغرها وأدخلها بطريقة ما فى صدرى، فتلك هى الوسيلة الوحيدة فى رأيى لإسكات هذا الإحساس المستمر برغبتى فى الاقتراب منها والالتصاق الدائم بها.

كنت أريد أن أقترب منها الاقتراب الأكبر، اقترابا أكبر بكثير مما كنا نفعله مع البنات ونحن نلعب لعبة الزواج فى المخازن القديمة.

حدقت فى حنونة طويلا. كانت تلك أول مرة أراها تحدق فى على هذا النحو الغريب. كثيرا ما كنت أسأل نفسى عن رأيها فى أو إحساسها نحوى، ففى معاملتها لى لم أكن أحس بذلك الشيء الخاص الذى تنفرد به العلاقات الخاصة، كنت أحس بنفسى وكأنى فى نظرها لست سوى صبى فى الرابعة عشرة، مجرد صبى آخر فى عينها ذات الستة عشر ربيعا، حقيقة تربطها به علاقة ورفاقة وتآلف واتفاق، ولكن لا شيء أكثر من هذا. فى تحديقها هذه المرة أحسست، فجأة، باللمعة فى عينيها تأخذ ذلك الطابع الذى طالما هفوت إليه، طابع الإحساس بالخصوصية، أحسست أنها نظرة موجهة لى أنا، وأنها تقول بها كلاما كثيرا تخجل أن تقوله العين نفسها، ولا تفصح عنه سوى النظرة، بل هو كلام لا يمكن - أو كان لا يمكن فى نظرى - أن تقوله عين، وبالذات عينها، كلام لم أملك معه إلا أن أقترب منها. كثيرا ما كان أحدنا يلتصق بالآخر ونحن سائران ويتأبط ذراعه. ولكن تلك أول مرة نقترب فيها إلى هذه الدرجة، ولم أكن، كائنة ما دارت أحلامى وأمنياتى، أتصور أن يحدث ما حدث، وأن، فجأة، تضمنى حنونة إلى صدرها بقوة مرتعشة مستعجلة مفاجئة، وتطبع على جبينى قبلة سريعة، لابد احمر لها وجهى كثيرا، ورفعت رأسى وأصبح وجهى يقابل وجهها. كنا اثنينا، نلهث، وجاءت المفاجأة الرائعة الثانية فقد وجدتها تنحنى، وأنا الأقصر قليلا، وتقبلنى وتقبلنى فى شفتى، قبلة سريعة أيضا، عظيمة الاضطراب والارتجاف حتى لقد أحسست بموجات الارتعاش التى تجعل شفتيها تنطبع على شفتى، قبلة سريعة كأنها البرق، ولكنها البرق، ولكنها شملتنى بكهرباء نعناعية المذاق تفتحت لها كل مسام روحى وانتعش قلبى وكأنه طائر ربيع بكر فى اليقظة، قبلة خلفتنى إلى أعظم اضطراب شعرت به فى حياتى إلى تلك اللحظة، فوكأننى فجأة قد أدركت، بالقبلة أن حنونة بنت، فيها من ذلك الشيء الذى يميز جنس النساء والذى يجعلهن يرتدين تلك الألوان والأثواب ويتضمخن بالعطور. ويصلصلن بالغوايش والخواتم والعقود، فيها من ذلك الذى يبرز الصدور ويجعل الجلد فى نعومة الحرير وللصوت وللصوت ذلك النغم الرقيق فى مقابل صوت الرجل الخشن كجسده الشوكى كذقنه، الداكن كوجهه وشعر صدره، حنونة إذن أنثى. اضطرابى كان سببه أنى أبدا لم أتصور هذا قبلا أو أحلم به. حنونة فى نظرى كانت كالعدرة كالإلهة، كالمتسببة العظمى فى كل خلجة سعادة يحفل بها الكون. لجزء من جزء من الثانية عاودنى الشعور وأنا لا أزال أستجيب لاحتضانها بيدى تلتف حولها وتضمها، أحس أنى أضم عذرية الكون الأزلية، عاودنى الشعور ولم يزايلنى. سقط فى قاع عقلى ولم يبرحه وظل كالأمانى العميقة حبيسة تقديس العرف والمعقول والتقاليد أمنية أن تذوب الذات الصغرى فى الذات الأعظم، أن تحب الله إلى الفناء، أن يتم الاتصال الخالد بينك وبين السر الكونى الأعظم. وحتى لو كنت قد نجحت فى تصور حنونة أنثى وفى إنزالها من الملكوت إلى الأرض جسما من لحم وعظم فقد كان من المحال أن أقرن هذا التصور بنفسى، من المحال أن أتصور علاقة لى تقوم مع حنونة الأنثى حتى لا فعل معها مثلما أفعل مع سائر البنات، حاولت كالمجنون أعيد القداسة إلى مكانها، أستعيد إحساسى أنها الأعظم، وأن ما تشعه فى الكون من جمال ورشاقة وتفوق يجعلها فوق مستوى البشر، يرفعها للسماء. حاولت جاهدا أن أعيد الشعور ليحول بين الشاب الصغير الذى انتفض داخلى فجأة مستجيبا لنداء الأنثى الذى تولدت عنه حنونة فجأة أيضا، ولكنى كنت أحاول المستحيل، فكل قداسات الدنيا من المحال أن تباعد بين القوتين الأعظم للحياة إذا وجدتا، الرجل والمرأة، إذ ثالثهما هو القانون الشيطانى الذى لا يمكن عصيانه. وقبلتها أنا، مرتجفا، مضطربا مثلها، إنما قد استجمعت ما فى من رجولة بكر، ولتكن حتى ما تكون، أرضية تكون أو سماوية، قديسة أو فتاة عادية فأنا محبوب وأنا محب والبادى كانت هى وعلى أنا أن أنعم مستحما عريان فى ذلك البحر المفاجيء الغريب الذى تفتح لى فجأة من بين شفتيها. يا لقلبها يدق وقد رقدت على الكنبة وأذنى فوق قلبها، دقا كونيا يكاد يزلزل الأرض والسماء فقد كان يزلزلنى. يالوجهها أجد فيه الأرض مرة وكل ما فيها من جمال، والسماء مرة وكل ما فيها من قداسة، علوية ترابية، تحمر وتصفر تكتئب وتكسوها ابتسامة العذراء، تموج كسطح البحر الرهيب الذى تفجر، دون أن تنطق، دون كلمة يتلوى جسدها ويتكلم، عذراء كانت وعذرى كنت، وكلانا لا يعرف، ويريد أن يعرف وهو يحاول أن يعرف، والغمامات التى كانت تحجب عيوننا عن أن ترى، وأن ترى أول ما ترى أنفسنا، تنزاح والحمى ليست حمى الغيبوبة ولكنها حمى التعرف المجنون والاستحواز والمتعة والاكتشاف، حمى السر الكونى إذا، أخيرا انكشف، حماك وأنت واقف ترقب ليلة القدر إذا انفتح باب السماء أمامك حقا واكتشفت من خلاله سر السماء، أو إذا انشقت أمامك المرأة فجأة عن مكنونها الأعظم لك، ولك وحدك.

كلما تذكرت أنى كنت لو حاولت تخيلها بنتا وأنثى أحس أنى على وشك القيام بمعصية تزلزل الأرض والسماء كما لو كنت على وشك ارتكاب الإثم الأعظم، أعظم إثم يرتكبه بشر، كنت كلما تصورت هذا وأحسست بحرمانى السابق يطغى أضمها وأعتصرها وألوكها، حية دافئة، أمرغ نفسى فيها وفى حرمانى منها وفى قداستها وفى الإثم الأعظم وبشريتها، والزمن الطويل الذى انقضى أعبدها، كنت أعبدها، وهأنذا أنا العابد أنالها وعلى نحو محال أن تتطرق إليه أشد الأحلام تخريفا وبعدا عن التصديق.

وماذا أقول: أأقول إن القداسة التى كانت تحيط بها وتصبغ صوتها وحتى إشارات يدها كانت إشعاعات الأنثى فيها، إشعاعات المرأة مقدسة ومشرقة، إشعاعات النوع والأنوثة كلها مركزة كضوء العدسة فى حنونة، حنانها، مسيحيتها، جمالها، نظراتها، عبادتى لها، كلها أنوثة وأنثى، ولقد مرت سنون وسنون، وعرفت نساء ونساء، ولكنى، لأنها كانت هى الأنثى فى ذلك اليوم لم أشعر، منذ يومها، أنى الرجل، إلى الآن.

وكأنما الماء فى الهدار بهدوء شديد بطؤت حركته، وضحلت حفرته، وآب إلى سكون. وكأنما البحر الذى انبثق من بين شفتيها بطول الدنيا وعرضها، آب سطحه إلى زجاج. وبالكاد حاولنا الاعتدال، وهى خجلى ولكنها ليست نادمة، وأنا خجلان، حين لمع شعاع عند الباب على حين بغتة، شعاع أدركت فى الحال كنهه وأنه صادر من زجاج نظارة معوض أفندى أو الباش أسطى أبيها، الطويل الرفيع ذى العينين المتعبتين دائما، والتى لابد تجد عند كل زاوية منهما فى أى ساعة من ساعات اليوم نقطة بيضاء من العماص أو الالتهاب لا أعرف. كنت خجلان ولكنى كنت كالمؤمن الذى للمرة الأولى فى حياة إيمانه يتصل الاتصال اليقينى المادى بخالقه، وتتم المعجزة، ويتحول عنده الإيمان إلى رسالة ويقين مستعد أن يفقد حياته نفسها وبكل بساطة فى سبيلها، وهكذا حين انسحبت حنونة من الحجرة هاربة كالقطة، ودق قلبى الصبى دقة قلب الصبى يضبط، أوقفت دقه بعناد المؤمن المهووس الممتليء إيمانا، ليس بما فعله من لحظات بالذات، وإنما بحنونة، وكل ما يتصل بحنونة، وعلى رأسه أن تستمر علاقته بها، قامت الدنيا أو قعدت، ضربه معوض أفندى أو تشاجر مع أبيه، ردحت أمها لأمه أو خنقتنى الأم، سحب أبى بندقيته القديمة من دولابها وأطلق النار على عائلة معوض كلها أو على أنا منفردا، فليحدث، وإنما كما يصلى العابد لإلهه، كما يتصل الشعاع بأمه الشمس، كما لا يمكن أن تخلو النجوم من الليل فصلتى بحنونة أكبر من كل هذه الحتميات، باقية وستبقى، إلى أن أموت أو نموت معا، وربما حتى بعد الموت تبقى.

ولكن يبدو أنى رغم هذا الإحساس الداخلى المروع، كان وجهى من الخارج، وأمام مشهد معوض أفندى المنتصب طويلا ورفيعا، ينخطف، وينسحب كل ما فى جسدى من دم ويسيل مغرقا أرض الحجرة. وبقيت واقفا جامد العينين مخفضهما أنتظر العقاب. كنت رغم هذا أدرك أنه جاء بعد النهاية، وأنه لا يمكن أن يخمن حقيقة ما حدث، ولكنى بإصرار كنت أنتظر العقاب. وليته عاقبنى، ليته ضربنى أو سبنى، ليته حتى اشتكى لأبى وليت أبى قتلنى، فكل ما فعله أنه بعد سكوت طويل قال:

ـ أنا كنت فاكرك جدع يا محمد.

كلمة من الكلمات التى تلصق بالذهن مدى العمر لا تمحى، كثيرا ما ترد إلى أذنيك، وتجدها فجأة قد انبثقت من غياهب الماضى واستحضرت نفسها، حتى على شفتيك تنطق نفسها فترددها، وتشملك رعدة خجل من نفسك وكأنما الرعدة الأولى التى أصابتك حين سمعتها أول مرة، وكلما تذكرتها، تذكرتها كاملة، بنفس النغمة والطريقة التى قيلت بها، ولا أدرى بالضبط إن كانت قد مرت شهور أو أعوام على ما حدث إذ كل ما تلا ذلك كانت أياما مملة كئيبة ممتدة الطول بلا هدف. آلاف المرات ألف حول البيت على ألمحها. كنت أعرف أن القضاء قد حل وأن الأمر البات الصريح قد صدر لها من أمها وأبيها معا، أن لا ترانى، أن أموت تماما من وجودى. وكنت فى مرات، مرات قليلة جدا، مرة كل ألف مرة، أراها، أراها من بعيد وأتطلع إليها مكتفيا بنظرة البعد وكأننى الإنسى يتطلع إلى نجوم السماء، ويحز الهوى القدسى فى نفسى أحيانا حتى ليدفعنى دفعا أن أقترب، وأظل أقترب حتى لأصبح على مرمى البصر منها، وأناديها، بهمس خفى مرة، بصوت عال مرة، وأشير لها، بيد ترتعش، بيد أحيانا مهووسة مبتورة، بذراع تقفز مع الجسد فى الهواء وكأنما تريد أن تمسك بخط البصر الكامن بين عينيها المستقيمين وبين الأفق. ولكنها لم يحدث أبدا أن رمش لها جفن الإدراك، إدراك وجودى، واقفة أبدا فى قلب مربع النافذة الأصفر الذى تقطع صفرته عمدان الحديد، عارفة بوجودى، هكذا أحس وأكاد أقسم ولكنى أعرف أنها لا تدركه أو تأبى إدراكه، لابد أنها قطعت على نفسها عهدا أمام أبويها، وعهود حنونة، كحنونة، مقدسة، ومحال أن تحنث بالعهد المقدس. أذوب وجدا وأنا أتذكر، أتذكرها من لحظة عرفتها إلى لحظة المعرفة الأعظم، أتذكر كل حركة صدرت عنها، كل كلمة عرفتها، كل كلمة، كل نظرة ذات معنى ارتسمت ذات مرة على ملامحها، أتذكرها وأذوب وجدا وشوقا وأقتل نفسى ندما. أكان لابد أن أصل إلى المستوى الأعظم. ألم يكن القرب مجرد القرب، أهون ألف مرة من التلاشى التام إلى حد القطيعة. كنت كالبطل فى قصة ألف ليلة وليلة الذى تركوه فى القصر ذى الأبواب السبعة وأمروه ألا يفتح الباب السابع للحجرة السابعة، وعاش فى القصر ينعم ويستمتع، ولكنه لم يستطع أن يقاوم المتعة الأكبر، أن يفتح الباب السابع، وفتحه، ورأى ما لم تره عين ولم يخطر على قلب بشر ولكنه فى النهاية وجد نفسه هناك خارج القصر فى النقطة السحرية التى فتح له باب القصر منها، كأنما عاديا قد عاد إلى الدنيا العادية، ووجد هناك ستة يرتدون السواد ويجلسون فى بكاء متصل، إنهم أولئك الذين سبقوه إلى الندم، وانضم مالك الحزين بملابسه السود ليصبح سابعهم، أكان لابد من الباب السابع والمتعة الأعظم؟ كمالك الحزين أبكى، وبالندم أحيد، والعالم كئيب، والأيام من فرط طولها عجوز رمادية شائخة، والليالى بلا منتصف أو فجر أو صباح، والعمر بلا زمن، إلى أن جاء الخريف، وسرت الإشاعة، ولا أصدق أنا، وتحدد اليوم، والشخص، وحلت الليلة، وانتثرت الكلوبات فى المستعمرة، وتركزت فى المربع الأوسط الواسع، الأضواء تكسر الظلام باهرة، والشموع كثيرة لا حصر لها، حتى رائحة الشموع نفسها كانت على البعد تشم، وابن عمها جاء من الصعيد ليتزوجها، وهم يزفونها إليه، ونفس القسيس، الذى يزورهم بين الحين والحين قد حضر من كنيسة البندر، والكل يغنى ويردد وراء القسيس: كير.. يا.. ليسون.. ارحم يا رب.. يا رب ارحم.. وحنونة فى ثيابها البيضاء الناصعة، وعقد الفل والطرحة، وقد حملوا وجهها بأكثر مما يحتمل من ألوان وأصباغ ولكن بقيت لها نظرة العينين غير مصبوغة، وإنما زائغة مروعة تائهة، تتحرك مدفوعة بالأيدى الكثيرة التى تتجاذبها، تتحرك كالمنومة مغناطيسيا كمن تؤدى دورا، وثمة ابتسامة شاحبة خائفة لا تغادر وجهها، وإلى جوارها أفندى ربما لم تره فى حياتها إلا الليلة، ضخم الجثة، أسود الشارب كثيفه، يرتدى (بالطو) أسود وشعره لامع شديد اللمعة بما فيه من بريانتين، العريس منتفخ الأوداج وكأنه لتوه قد ربح صفقة، يمضغ ويتلمظ ويضحك من أعماق صدره وأحيانا دون أن يريد، وحنونة إلى جواره كالحمامة المسوق الوديعة تتجاذبها الأيدى وتدفعها، وتبتسم فى شحوب وعيناها هائمتان تبحثان عن شيء بين نجوم السماء وكأنها العدرة فقد منها مسيحها، والعذراء راضخة، صابرة، وحيدة، تفتش السماء بعينيها بحثا عن الخلاص، من يدرى ربما كانت تفتش عنى وأنا قابع فوق السطح أتألم وأندم وأرقب، والكل يردد: كيرياليسون.. كيرياليسون».

 

 

موارد نصيــة

د. عبير سلامـة

نداهة الكتابة

نصوص مجهولة في إبداع يوسف إدريس

المحتــوى

1. بدايــة

2. مفيستـو والتزام الكتابـة

3. تعديل أزمات الثعلب

قصة الورقة بعشـرة

قصة القديسة حنونـة

قصة جيوكندا مصرية

نص المستحيـلان

رأس المثلث الرمادي

قصة المثلث الرمادي

4. موهبة النظير في القصص المجهولة

قصة أنشودة الغربـاء

قصة لعنة الجبـل

قصة نهاية الطريـق

قصة قط ضـال

قصة القبـور

قصة تمليذ طـب

قصة مجرد يوم

قصة الكابـوس

قصة (قصة مصرية جدا)

5. نداهة الكتابـة

قصة (طابور خامس) لمحمد يسرى أحمد

قصة (النداهة) لسليمان فياض

6. قصة المقالات وحدود التجريـب

7. بداية أخـرى

8. ببليوجرافيا قصص يوسف إدريـس

 
 
 
 
جماليـــات إضــــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع مـوارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.