نصرت مردان

المـطر و مغـزى الأشياء

 

 

قبل نصف ساعة أحرقت المنشور الحزبي ،ثم مضيت بعده اذرع الشوارع .تساءلت منذ متى تعرف قدماي هذه الأرصفة والشوارع ، التي لا تتبدل مع الزمن .هذه الوجوه ترتبط معي بصداقة طويلة تمتد إلى طفولتي.أحس نحوها بالآلفة،رغم وجه المدينة الكالح .أحس بالصداقة نحو أصوات الباعة ،وأصوات الضجيج المرتفعة من المقهى الذي اعتدت الجلوس فيه .

مرات كثيرة أحس باليأس..وسرعان ما أسيطر على نفسي بقوة كي لا اهرع إلى الشارع ،واصرخ بأعلى صوتي،وأعلن انتمائي علانية .لكنني سرعان ما أتغلب على هذا التهور ،وأقول لنفسي:صبرا ،فصمت المدينة ليس صمتا فارغا،وهذه الوجوه التي تبدو لا مبالية ربما تحمل في أعماقها هدير البحر وانفجار البراكين.

ادخل المقهى.القي التحية ،وأتلقى التحايا .يأتيني النادل بقدح شاي وطاسة ماء .اغرفها .(حسن خيوكة) يغني في المذياع .الكل مهتم بالنرد أو بالثرثرة .أما الذين يجلسون وحدهم فهم مشغولون مع صمتهم ومع همومهم .

سوق (القورية) مزدحمة بالمارة والسيارات .السماء مغيمة.المطر على وشك الهطول .فجاءة شعرت برغبة عارمة للمطر .وهتفت في نفسي ،ليت المطر يهطل .لا ادري لماذا يبدو صمت المدينة في المطر أكثر مغزى من وجودها الحالي ؟ولماذا تبدو المقاهي والشوارع والناس أكثر عمقا وتأملا أو هكذا أحس أنا لسبب أجهله. منذ أن وعيت على نفسي وأنا أعيش بهذا الإحساس .أحس في المطر بالحزن .لكنه حزن خلاق.لأنه يدفعني إلى التفكير والتأمل والكتابة .دفعت ثمن الشاي .ارغب بالخروج . فجأة وقفت سيارة أمام باب المقهى .نزل منها رجلان وتقدما مني .

- هيا معنا . خف اللغط في المقهى .صمت حتى الراديو الذي بادر صاحب المقهى إلى إطفائه .

- أريد أن اعرف السبب ؟

- ستعرفه فيما بعد . لم أر بدا من مرافقتهما .في السيارة كان ثمة رجل آخر. جلست .انطلقت السيارة بسرعة البرق .حينما خفت الأضواء في الشارع .ربط أحد الرجال عيني بعصابة سوداء .

- ماذا تريدون مني ؟

- ستعرف ذلك في التحقيق .

- لم افعل شيئا .

- اسكت و الإ حطمت أسنانك !. السيارة تنطلق إلى محل مجهول وسري ،وإلا لما ربطوا عيني . اهدأ .قلت في نفسي .شئ اعتيادي أن تقاد إلى التحقيق فعيون الشرطة في كل مكان .

أحاول بقدر الإمكان أن أكون هادئا . وان أتذكر أشياء جميلة تحتفظ بها الذاكرة . لأن ذلك وحده سوف يمنعني من الانهيار .

قال أحدهم : ـ هناك سترى ما يحل بك أيها الوغد ! لم أفه بكلمة .ومع إنني لم أكن أرى شيئا إلا إنني رغم ذلك أغمضت عيني ..

* * *

(( أرى نفسي جالسا في غرفتي ..تتنهد سعاد على صدري .أجدها شهية ،بريئة ،ساذجة .تقول : تعودت على التدخين .أغضبت من ذلك ؟

اضحك .وإذا لم اغضب ،فماذا ستكون مكافأتي ؟

تقول بمرح : قبلة لذيذة .

أقول :لم اغضب إذن .

وتضع شفتيها على شفتي .

تقول : سألد لك عشرة أطفال ،وسيكون لنا بيت مثل كل الناس . أليس كذلك ؟

اجل ،أقول لها . وتصغر أكثر بين ذراعي.تفتح ضفيرتها .اقبلها شعرة شعرة .

صباحاتي تلد مع سعاد.

من خلال ضفيرتها المفتوحة ، اغني لها أغنية لرضا علي . تضحك .يا له من صوت قبيح . حينما نتزوج لا أريد أن تغني لي . وأحس إنني فرح كغيمة مسافرة .. وحينما أقول لها ذلك تبتسم وتقول :ما ابعد هذا المعنى عن أغاني رضا علي..وتطلب بإلحاح أن اغني واغني..وتغرق هي في ضحك متواصل .

وفي يوم لم يلد الصباح .. زوجوها عنوة .بعد ما أن عرفت عائلتها علاقتها بي ..القوها في حضن رجل بدين ..رحلت سعاد وذابت عواطفها في رحى الزمن ))

* * *

السيارة تواصل أزيزها .إلى أية جهة يريد هؤلاء الرجال البلداء اقتيادي .هل مكان التحقيق يقع خارج المدينة أم انه في داخلها ؟أم يتعمدون إطالة الطريق قصدا ؟ أحدهم يقول :

ـ سيعوي هناك كالكلب .

ـ أمثال هؤلاء يظنون البطولة في معاداة السلطة وكتابة المناشير على الجدران وتوزيعها .ا

سعل وأحس بالبرودة .هل يهطل المطر ؟اسمع صوت هطوله . ربما يسقط على شكل زخات خفيفة .

* * *

(( المطر يسقط بغزارة .لا أبالي به .انطلق بدراجتي القديمة عابرا سوق القورية إلى منطقة ـ كاورباغي ـ مترنما بأغنية قديمة .فجأة اسمع أصوات طلقات وهتافات بسقوط السلطة . الشرطة تطارد العمال وتنهال عليهم بالهراوات.يسقط بعضهم مضرجين بدمائهم ، ويسقط البعض تحت حوافر خيول الشرطة .اشعر بالهلع واسقط من الدراجة . الدماء تغمر الأرصفة . الأحصنة متهيجة . ورئيس الشرطة يصدر الأوامر صارخا : أطلقوا النار

كالسيل ينهمر المطر . الزخم البشري يهتف كالهدير . اهرع من الأزقة الخلفية نحو البيت .
أن والدي كان هناك مع الزخم البشري الصارخ ضد السلطة . كان والدي عاملا في شركة النفط بكركوك .

* * *

وأخيرا اشتد صوت المطر .قال الرجل الذي في جانبي :

ـ ما أطول الطريق ! وكنت اعلم بأنه يكذب .فالسيارة لا تزال غير بعيدة عن المدينة .

ـ سوف يلقي هناك درسا لن ينساه .

ـ هناك سوف ينسى البطولة .. ويقبل الأحذية .

ضرب بباطن كفه عنقي ساخرا :

ـ ماذا تقول أيها الوغد !

* * *

(( أعود من المنفى إلى المدينة .أتأمل من السيارة الخضرة الممتدة كالبساط على امتداد الطريق . آذار يقرع الأبواب. أتشم من النافذة الربيع الذي يحيي التلال الممتدة على مد البصر .

يقول سائق السيارة :

ـ أغبت عن كركوك كثيرا ؟ اجل . أقول .لقد نفيت من المدينة . إنني معلم .

بصق السائق من النافذة

ـ لعنهم الله..أليس الكل أبناء هذا البلد .؟

من بعيد تبدو كركوك .وكأنها هي الأخرى متلهفة للقائي . تفتح لي ذراعيها .انظر بمودة بالغة إلى شوارعها المهملة منذ طفولتي. أنزل من السيارة .الشمس في أتوج حيويتها . المقاهي مزدحمة كالعادة . اتجه إلى دكان عبدا لمسيح الذي ما أن راني حتى نهض وحياني قائلا :آهلا بك يا أستاذ ..أين كنت ؟ قلت ساخرا : كنت في سياحة قسرية ! ضحك كاشفا عن أسنانه الذهبية قائلا : لقد كثر عدد القائمين بالسياحة القسرية في مدينتنا . أطلب نصف قنينة عرق..اتجه إلى البيت . أريد أن اشرب بارتياح.سأذهب غدا للأصدقاء.لا يعرف بمجيئي تحد حتى زوجتي تجهل عودتي . افتح الباب.البيت نظيف كالعادة .زوجتي في المدرسة .وضعت قنينة العرق على المائدة ،وبدأت اشرب ببطء . فتحت المذياع .لا يزال يذيع نشيد ( إحنا البعث ). وكان المذياع نفسه يذيع قبل سنوات ليلا ونهارا نشيد(عبد الكريم كل القلوب تهواك).

بعد ساعة ستقبل زوجتي كالفراشة..وستتسع عيناها حينما تراني . وتهتف : وأخيرا جئت ..! وتلقي بنفسها بين ذراعي .

اشرب ببطء . الساعة تقترب . سوف أحدثها عن أشواقي ،عن الشوق الذي عشته لها ولكركوك .وستكشف عن أسنان بيضاء وتبتسم كجارية تركية . وسأغسلها في الحمام كطفلة عاقلة ..ثم اقبلها واقبلها واقبلها ))

فجأة أحسست بيد الرجل الذي بجانبي تهزني بغلظة صارخا

- هيا انزل أيها الوغد ، لقد وصلنا .

1/9/ 1978

أنقرة

 

 

 

موارد نصيــة

نصرت مردان

حانة الأحـلام السعيـدة

المحتــوى

1 ـ إلـى متى يبقى البعير على التل ؟

2 ـ المطر ومغزى الأشياء

3 ـ تلك الرائحة القديمة

4 ـ يوم شديد البؤس

5 ـ الدخول في الشرنقة

6 ـ  سنوات البكارة في حياة هيفاء طوبيا

7 ـ تعالي يا ناني

8 ـ لا تنظر إلى الخلف أبدا

9 ـ بيت حسنية

10 ـ الشمس لا تشرق على سيلوبي

11 ـ الذئب ينزل إلى المدينة

12 ـ محطات عمر

13 ـ  طلقة في قلب الحمامة

14 ـ ايكور.. ايكور

15 ـ  زوار الفجر

16 ـ  حصان الغجر العجوز

17 ـ قصص برقية

18 ـ عائلة سعيدة

19 ـ ميلاد الولد الأسود

20 ـ يوم الضباع

 21 ـ الطلسم

22 ـ حانة الأحلام السعيدة

 

 
 
 
جماليـــات إضــــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع مـوارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.