كان
الرجل مستمرا في الجري غير عابئ بالشمس التي تسقط باللهب فوق مدينة كركوك
،وكان يصطدم بالمارة والعربات الواقفة وهو يلهث .كان يبدو كمن فقد عينيه
يعبر الشوارع ،والأزقة دون أن يراها ،وكأن عينه الأخرى فقدت هي الأخرى
القدرة على التمييز . انساب كالثعبان التعب من فوق الجسر نحو محلة ـ
بريادي ـ ،كان صدره يرتفع وينخفض كالمنفاخ .و لأول مرة أحس الرجل بجفاف
في بلعومه فخفف جريه قليلا إلا انه سرعان ما عاد يهرع حينما رأي التكية
تلوح له من بعيد
.
ودخل جمال
الأعور باب التكية وهو يلهث .ولم تر عينه الوحيدة المريدين والشحاذين
والدراويش الذين كانوا يملاؤن فناء التكية .هرع إلى حيث السيد .رفع السيد
عينيه إليه .أهوى جمال الأعور بشفتيه على يد السيد وكأن كل عضو في جسمه
يشارك شفتيه في خضوعه لصاحب هذه اليد
.
ـ خيرا ؟
قال السيد
.
ـ يا سيدنا ..مصيبة
وكارثة كبيرة
.
مسد
السيد لحيته البيضاء ثم تمتم بهدوء
ـ اهدأ يا
رجل واخبرني بما جرى
.
كان صدر جمال
الأعور لا يزال يصعد وينخفض كالمنفاخ ،وهو يحاول أن يستجمع قواه .كان
التعب يلوح في العرق المتفصد على جبينه وفي كلماته التي يلهث وهو ينطقها
.
ـ مصيبة يا
سيدنا ..سمعت لتوي بها فهرعت إلى هنا لأخبرك بها وتركت عملي وكل شئ
ربت السيد على كتفه .اهدأ يا ولدي
وحدثني بهدوء عما جرى .. ثم نادى بصوت مرتفع :
ـ
قليلا من الماء . بعد قليل ،كان جمال يغرف من طاسة الماء . هدأ جمال
قليلا .ربت السيد على كتفه ثانية وكأنه يدعوه للحديث .
ـ نعم
يا ولدي ؟ نظر الرجل إلى
عيني السيد بخضوع ثم اخذ يتحدث بهدوء :
ـ يا
سيدي ..هذه المدينة كافرة ولا تستحق حمايتكم يا سيدي ..إنها كافرة كافرة
. وانهمرت الدموع من عينيه .كان السيد لا يزال ينتظر بصبر من الرجل أن
يتكلم.
ـ لا يعقل
أن تدعو المدينة كافرة ،ففيها التقي والورع والداعر والله وحده يجازي
الكل بما يستحق. نحن بشر علينا بالدعاء للجميع كي يهتدوا إلى الطريق
القويم
.
ـ يا
سيدي البلدية تريد أن تهدم مقبرة سيدنا علاوي
.
نطق
العبارة بسرعة بالغة ثم هدأ صدره ، واكتسب وجهه لونه الطبيعي ، وعاد
البياض إلى عينه الوحيدة التي كانت تبدو قبل قليل وكأنها لا تملك لونا
إلا أن يديه ظلتا ترتجفان
.
شحب وجه السيد
قليلا .أخفض رأسه أرضا .تمتم بكلمات غير مسموعة .ثم قال :
ـ
أحقا ما تقول ؟ هذا ما
استطاع أن يقوله بعد صمت طويل .
ـ
اقسم بالله يا سيدي ..فأنا اعمل في البلدية .وقد علمت أن العمال سوف
يتوجهون في الصباح لهدم المقبرة .
إن مدينتنا مقبلة على شر كبير
.
لم يرد السيد أن يظهر اضطرابه . واكتفى
بالقول :
ـ
اطمئن يا ولدي . خيرا سيحصل إن شاء الله .
حينما رفع جمال
عينه رأى المريدين والشحاذين والدراويش الذين كانوا في الفناء قد تجمعوا
حوله .كانوا قد سمعوا كل شئ .نظر كل منهم إلى الآخر بفراغ إلى الآخر ثم
اتجهت كل العيون بتصميم نحو السيد
.
مع الصباح
انطلقت الطيور والشمس و معهم المريدون و ا لشحاذون والدراويش إلى مقبرة
السيد علاوي .واحتلت الأعلام الخضراء والسوداء كل مكان .
* * *
على امتداد
البصر تمتزج الخضرة بالألوان الأخرى .الحشائش تفوح برائحة التراب والربيع
.ألوان وألوان.وثمة بيوت في الأطراف تفتح نوافذها على هذه الألوان .ونساء
معصبات الرؤوس يتأملن الربيع ويعرفن قدومه من اخضرار الأشجار وتفتح
الأزهار البرية في المقبرة . قبل قدوم العيد يبكين أمواتهن هناك ،
ويباركن أول يوم العيد هناك . للمقابر لغة في هذه المدينة . لغة تختلط
فيها الحزن بالفرح .لغة من الصعوبة أن تتواجد في مكان أخر .
* * *
وقف حسن السكران أمام الجمع المتجه
نحو المقبرة بعصبية .
ـ يا
جماعة يا ناس ..إلى أين ؟ رد عليه ميرزا البقال :
ـ منذ
الصباح تسكر هذا السم ! لعنك الله .
وقف حسن السكران أمام مبرزا .
نظر إليه بصمت ثم قال :
ـ
تذهبون لحماية المقبرة .متى ستصحون ؟ دعوهم يفتحون الشارع . هئ . أرواح
الموتى عند الله .هئ.. أما
عظامهم فهنا . هئ .هذا لا يهم . دعوهم يفتحون . لنر قلب المدينة . ضقنا
من المقابر .هئ .. من منكم
يعبرها بلا خوف
ليلا . حرام عليكم .. إنها مليئة بالعقارب والثعابين . دعونا نرى قلب
المدينة ، دون المقابر
دفعه ميرزا
بضجر .
ـ هيا ابتعد
عنا أيها السكير
.
ثم التفت إلى
الجماعة بغضب :
ـ لماذا
تنصتون إلى هذا السكير ؟ هيا..
تحركوا جميعا .
بينما بقي حسن في وسط السوق مرددا :
ـ حرام يا
ناس ..حرام دعونا نرى قلب المدينة .
* * *
وقفت السيارة .
نزل منها المحافظ .ألقي نظرة على الجمع المحتشد في المقبرة .كان السيد في
الوسط يحيط به الدراويش والشحاذون وأناس المدينة .يا إخوان ، قال المحافظ
. إن ما تقومون به مخالف للقوانين
.
نسي جمال
الأعور كونه عاملا في البلدية فقال صارخا :
ـ والحكومة
ألا تعتدي على الحرمات ؟
ـ الحكومة
اعلم بمصلحتكم . نحن نطبق القوانين
.
صرخ شخص من خلف
الجمع :
ـ تطبقون
القوانين أم أوامر الحزب ؟
ارتفعت
أصوات الاستحسان .
ـ أحسنت لن
تحرم مدينتنا من بركة سيدنا علاوي
.
امتقع لون
المحافظ .
ـ يا
إخوان ، ما هذا الهراء ؟ غايتنا فتح شارع مبلط إلى قلب المدينة .كل ذلك
من اجل راحتكم . أرجوكم فكروا ولا تتهوروا .مدينتنا ستكون عصرية . سيدنا
علاوي نحترمه ونقدسه . غايتنا إزالة عدة قبور فقط .
كلا . صرخ الجمع بصوت واحد .
ـ إن كل من
يرقد في هذه المقبرة هو ابن هذه المدينة .قد يكون ابننا أو عمنا أو قريبا
لنا . محال أن يحدث ذلك
.
في هذه اللحظة
وصلت جرافة إلى المقبرة . ازداد الهياج . كفرة . كفرة . كفرة . حاول
البعض الهجوم على الجرافة . لكن السيد رفع يده
:
ـ نريد حل
المسالة بالمنطق .
ـ لكن يا سيدنا
ـ
صمتا . لا نريد العنف . سنبقى هنا حتى يثبت الحق نفسه . ولن تمنعنا أية
قوة من حماية السيد علاوي . ازداد الهياج والصياح .
ـ سلم لسانك يا سيدي .قال جمال الأعور
مقبلا يد السيد . سنبقى هنا ولن نتحرك خطوة عن المقبرة .
امتقع لون المحافظ .
ـ إن ما تقومون به خطير .كل ما نفعله هو
من مصلحة المدينة ومصلحتنا .إنني أقوم بواجبي .
قال السيد:
ـ بلغ أسيادك ما رايته .ونحن هنا لقاعدون
حتى يتبين الحق .
رجع المحافظ إلى سيارته ، وارتفعت الأيدي
تودعه بسخرية .
* * *
انحازت المدينة
إلى قسمين . قسم يؤيد المعتصمين في المقبرة ، وقسم يرى من العبث معارضة
القرار . وتقاطر الطعام والغذاء إلى المعتصمين
.
قالت زكية
الخبازة : إنهم على حق يا عيني . سيدنا علاوي له بركاته . ستنال أعمالنا
الكساد وتعقم النساء منذ الصباح بعت ما خبزت بسبب الاعتصام . ليتهم
يستمرون ليعرف الكفرة قدرهم .
قال إمام الجامع الكبير :استغفر
الله.الحق سيزهق الباطل . إن الإيمان لم يمت في هذه المدينة .
قال عبدالقادر
جميل : يا أخي ،متى سيعي الناس هنا .العصر يتقدم وعقولنا لا تزال عامرة
بالعناكب . قامت القيامة من اجل فتح شارع ! اللهم صبرك
.
قالت حسنية (
التي يصمها الناس بامرأة السوء ) : يا للحظ السيئ ! إذا استمرت الحال
لمدة طويلة سأبيت جائعة الكل منشغل بالحدث
.
قال حسن
السكران : حرام يا ناس ! دعونا نرى قلب المدينة بلا مقابر .
* * *
يومان والمقابر
ملأى بالناس . المدينة تتحدث عن المقبرة والمعتصمين .في السماء أعلام
خضراء وسوداء ،وعلى ارض المقبرة ألوان وألوان و ألوان . النساء هذه المرة
ينظرن هذه المرة إلى الربيع والرجال والأعلام
.
السيد يتحدث
والجميع يحيط به .
ـ يا إخوان
كما تعرفون ، استدعاني أمس المحافظ . التقيت به ووعدني خيرا . قال ،عودوا
إلى أعمالكم . ولتبق القبور تحت حماية سيدنا مادمتم تودون ذلك . غايتنا
إرضاء الجميع . وقد تلقيت مكالمة من السيد الوزير ، ابلغني فيها بضرورة
إيقاف العملية . ليهدا بالكم وليعد الجميع إلى عمله
.
ـ هل نثق
بهم يا مولانا ؟ قال جمال الأعور
.
طمأنه السيد :
ـ نحن أصحاب
إيمان يا ولدي، وللوعد قيمته عندنا
.
قام السيد ،
وقام على أثره الجميع .قُرعت الدفوف ورفرفت الأعلام تحرك الجمع نحو
المدينة مرددين الأدعية وردد الدراويش أسماء الله الحسنى
.
كانت الشمس في
كبد السماء .
* * *
في أكثر
الساعات صمتا وموتا ، تحركت سيارة وجرافة من عمق الظلام نحو مرقد السيد
علاوي . هبط المحافظ ورئيس البلدية . كان الصمت والظلام مخيمين . لم يكن
هناك إلا البدر شاهدا على هذا الحضور السري . أشار رئيس البلدية إلى سائق
الجرافة ..تحركت الجرافة وسط القبور مثل وحش كاسر ، متجاوزاً كل ما هو
أمامه من أضرحة...
ضحك
المحافظ في سره ، وهو يتذكر سذاجة الشيخ ، وبدأ يفكر بكلمات التقرير الذي
سيرفعه إلى قيادة الحزب
.
|