ما رآني الصافي حتى تهلل وجهه بالفرح، وقال:
- أيها الهارب. أين المفر؟ نظرتَ يمينا وشمالا، ثم لذتَ بالفرار؟!
أين المفر؟ منذ فررت من منزلي وخاطرٌ ينبؤني بأنك لن تكون إلا في حانة
«الزعتر». وها أنت في حانة الزعتر.
فراسة السكير لا تخطئ، لا سيما عندما يكون أقرب إلى أولياء الله
الصالحين مثل الصافي. ألا يردد هو نفسه كلما ارتقى في السكر درجات:
«المؤمن مصابٌ»؟! نعم المؤمن مُصابٌ. بلغت محبة الأم لابنها، في حالة
الصافي، ما جعلها يهون عليها أن تمسَّ عينها ولا يمسّ ابنها، ولذلك
كانت تردد على مسمعه دوما دعوات صالحة، على رأسها تلك التي تولت الحياة
الاستجابة لها بالمقلوب: كانت تقول له:
- أي بني. رافقتك آية الكرسي أينما حللت وارتحلتَ، وكانت لك حصنا
حصينا يطرد عنك كل سوء.
- نعم أمي. لكن أين أنت الآن لتري أين انتهى الأمر بابنك؟ ذهب كرسي
الآية وما ترافقني الآن إلا كراسي الحانة.
يقول الصافي ذلك، ثم يردد:
- لعن الله النساء!
مشكلته هو الآخر امرأة. أصلُ البلايا النساءُ. يا معشر الأسوياء.
إننا ما نعاقر الخمر حبا في الخمرة. نساؤنا تطردننا من البيوت، فلا نجد
بديلا عنها في غير الحانات.
لأكفر عن ذنبي، ذنب الفرار من المنزل، أهديتُ للصافي خمس جعات دفة
واحدة. سددتُ الثمن وعدتُ إلى مجالسة البنتين. كانت هي فعلا. بيد أني
لن أعرف إلى الأبد ما إذا كانت تستبلدني وتريد الإيقاع بي مرة أخرى أم
أنها كانت تود التكفير عن ذنبها الأسبق. لأن الصافي انتزعني فجأة
ودعاني إلى استبدال الفضاء بفضاء أحسن. إلى بار
كاميرا.
حدس السكير لا يخطئ. هناك. كان الفضاء أفضل فعلا. طاب المقامُ،
ارتخت أطرافنا، شربنا وأكلنا ودخنا سجائر واسترحنا إلى أن جاء شحاذٌ
يعزف على الوتار ويغني أغاني أمازيغية. أغاني الأطلس توقظ في الصافي
الأحاسيس الدفينة، وإن كان لا يتكلم البربرية فيما يبدو. أقول فيما
يبدو لأنه على افتراض أنه يعرفها، فهو يبقى من الأشخاص القلائل الذين
عرفتهم في حياتي ولا يتعصبون لهذه اللغة. تذكرتُ عميد الشرطة (سابقا)
الذي زلت به الخمر فساقته إلى حانة رافائيل ذات منتصف ليل. رفض التحدث
بالعربية إطلاقا فما قاسم الألفة إلا «أبناء عمومته». الحرص على النقاء
أولى. أتعلمون ماذا قال لي؟:
- من أين أصلك؟
- لستُ أدري!
وإذن أنت دخيل علينا. ما يكون أصلك إلا من الأندلس. أنتم، معشر
الأندلسيين، دخلاء علينا.
- يا سيدي وهل أنت واثق من أصلك؟ لن أصدقك إلا إذا توفرت على شجرة
نسابة تربط سلسلتك بالجد الأعلى. وذاك ما لا يتوفر عليه إلا الخاصة أو
خاصة الخاصة من الأمة. نعم قد أكون أندلسيا، ولكني قد أكون متقاطعا في
نقطة ما من نقط شجرة نسابتي بنقطة دم من الأطلس.
استحال كل نقاش بيني وبين الرجل، وما نجوت من عنفه الكلامي - وربما
الجسدي - إلا بالتعبير عن الفكرة التي آمنتُ بها جيدا:
- اسمع يا سيدي، على افتراض أنني أندلسي الأصل. فنحنُ نقيم في وطن
واحد، متعدد الأعراق. وإن كنتُ لا أفهم الأمازيغية لأحدثك بها فالذنب
ليس ذنبي. لا أحتقر هذه اللغة ولن أحتقرها يوما. وهل بإمكان امرئ ما أن
يحتقر لغة ما؟ من يحتقر اللسان فهو يحتقر الوجود. الخطأ خطأ الدولة
التي لا تعلم مواطنيها لغات بلادهم. إني لأشعر بالغبن والغضب كلما نزلت
بإحدى قرى الأطلس ووجدتُ نفسي مضطرا لترجمان كي أتواصل مع بني جلدتي.
أغاني الأطلس توقظ في الصافي الأحاسيس الدفينة. ضربَ العازف على
الوتر الحساس وأجاد الضربَ. الشحاذون هم الآخرون نصَّابون. أجاد الضربَ
إلى أن حلت روح حاتم الطائي في الصافي، فأشرع جيبه للضيف. ضمن الشحاذ
رزق يومه. لم ينصرف. شربَ جيوشا من الجعة وأكل دجاجا مشويا وسلاطة،
وشرب خمرا أحمر، وعزف وغنى إلى أن رقصت الحانة كلها. كأننا الليلة في
حانة رافائيل ليلة تراشق عبد الرحيم والخنيفريتان: بأغنية «إفرو
حمَّام».
لفظتنا الحانة. اشترينا مزيدا من الخمر والأكل، وامتطينا سيارة أجرة
صغيرة. سنكمل السهرة في منزل الصافي. سنستمتع بأجمل ما يعرفه ويغنيه
هذا الغريب. في الطريق نام الصافي كعادته كلما شربَ فوق ما يطيق. هو من
ذلك الصنف من السكارى الذي يشرب إلى أن تختل مشيته، لكن يكفيه أن ينام
خمس دقائق إلى عشر، فيستعيد كامل صحوه. لم ينم الصافي خمس دقائق ولا
عشرة. عاد إلى صحوه مرغما.
- أين نحن؟
- قبالة منزلك.
- ومن هذا الشخص الذي يرافقنا؟
- إنه المغني
- أي مغن؟
- الذي كان برفقتنا في حانة راميكا.
- أنا لا أعرف مغنيا ولا هم يحزنون
قال ذلك بلهجة جادة. ذهل الغريب. حاول إقناع الصافي، أراه كيسين
بلاستسكيين، ثم سأله:
- ألم تكلفني قبل قليل بحمل هذين الكيسين؟ إنهما كيساك. بهذا دجاجٌ
مشوي، وبهذا قنينات خمر.
انتابت الصافي نوبة هستيرية كتلك التي انتابت سيف في مخرج حانة
باليما. أخذ يصرخ بأعلى صوته:
- تريد الإيقاع بي؟ هه؟ خذ وتارك، وخذ دجاجك وخمرك واغرب عني. أيها
الناس. لص أراد أن يعتدي علي. اقبضوا على اللص. اقبضوا على اللص.
لم يجد الغريب بُدا من إطلاق ساقيه للـريح، وبذلك تحول فعلا إلى لص
رغم أنفه... لو استيقظ أحدٌ النوم لألقى عليه القبض وضبطه «متلبسا»،
وساقه إلى الشرطة.