لا ألوم مصطفى على تصرفه ذاكَ، كما لا أعزوه إلى زلة خمر.
فقد تصرَّفَ بمنتهى الانضباط لقاعدةٍ مثالها النموذجي
العقيد والنون. نعم السكارى هم الآخرون ينضبطون. بل
إن انضباطهم ليضاعف آلاف المرات انضباط الصاحين. ولكنهم لا
يشاؤون. فقد لازم مصطفى الحانة سنينا، ولما خرجَ منها
للتباري مع الصاحين حصد الجائزة الأولى في الرياضيات على
الصعيد الوطني! ولكن
الناس لا يُقدِّرُون. ليلتها قصد مصطفى حانة، لكن الأستاذ لم
يتعرف على التلميذ. قلق ربّ الحانة والرواد، فأرسل حارسين.
طلبا منه الانصراف، رفض، بدعوى أنه من مدينة أخرى، وأنه في
زيارة لأكادير بدعوى من والي المدينة. قالا له:
- هات الدعوة.
قرآها، ثم ضحكا ساخرين، وتعاونا عليه. رفعه أحدهما من الكتف الأيمن
والثاني من الأيسر، وألقيا به خارج الحانة وهما يقولان:
- اذهب إلى الجحيم أنت والوالي .
يحكيها مصطفى ضاحكا مثل طفل، ثم يضيف:
- إني لأتعجب كيف قويا على رفعي في رمشة عينٍ مع أنني ضخم
الجثة تبارك الله!
لا ألومه لأن الناس لا يفهمون. كلما كان المرءُ طيبا معهم
بالغوا في استغلال طيبوبته. كان على المغني الغريب أن يلاحظ
أن مضيفيه زلت بهما الخمر، وكان عليه يعتذر عن المجالسة، أو
على الأقل يجلس قسطا من الوقت ثم ينصرف. لم يفهم فنال «جزاء»
عدم فهمه. اتهم باللصوصية. لكن الحانات تفهم جيدا ولا تغلق
أبوابها حتى في وجه من أشرفوا على الموت، فأحرى على الأصحاء
المفلسين. ولذلك عندما يفرغ جيب مصطفى ينقلبُ ضد الجميع، بما
في ذلك الأصدقاء الذين ظل يسامرهم إلى أن فطن إلى فراغ جيبه،
فيلعن كل من يحيط به:
- لعنكم الله جميعا يا أبناء العاهرات. لعنكم الله أيها اللوطيون. كلكم
قوادون...
يلعنهم بالطريقة ذاتها التي يحيي بها العقيد ذو النون أرباب
الحانات والعاملين فيها وروادها على السواء؛ فما يلج الحانة
حتى يلقي بقذائف الشتائم يمينا ويسارا:
- آسعيد يدّك في أيري. آمي فطومة إحليلي في دبرك. سرْ آمحبوب
لعن الله دين أمك. وأنت يا رابحة. إليتايَ فوق مؤخرتك. هات
بيرة...
للمال طبعا الغلبة. تواجه الشتائم بالاستزادة والوجه البشوش.
ذو النون من التلاميذ النجباء. ينفق بدون حساب في شرب الخمر
ومرافقة العاهرات. معروف في جميع الحانات. بنيته الجسدية
توحي بأنه لا يصرف على بطنه أكثر من عشر راتبه. أما الملابس
فتلك حكاية أخرى... له في الحصول على المستحقات التي تدين له
الدولة بها ملاحم. آخرها تلك التي أنفق فيها هو وصديقه
الأستاذ الجامعي مليوني سنتيم في ظرف يومين:
- تبخرت في النفار والطبال والغياط. واش غاتدير؟ ما عندك ما
تدير؟ [تبخرت كلها في الصور والطبل والمزمار. وماذا كان
بوسعي أن أفعل غير ذلك؟]
ما النفار والطبال والغياط سوى جوقة العلبة الليلية لحانة
وليلي... يقول ذلك بدون أدنى شعور بالندم، ثم يواصل الشرابَ.
ولعمري ذاك هو الجواب الضمني الذي يردّ به أرباب الحانات
وعمالها على شتائم واحتجاجات هذا النوع من الزبناء. ذاك هو
مغزى بشاشاتهم وابتسامتهم أمام سيل الشتائم. كأنهم يقولون
ضمنيا:
- أيها الزبون. يدّك في أيرنا. أيها الزبون إحليلنا في دبرك.
أيها الزبون إليتينا فوق مؤخرتك. ألا ترى أنك كدت تسير جائعا
عاريا بسبب تبعيتكَ لحانتنا وما تجد إلى فراقها سبيلا؟!
وهم لا يترددون في التهامس بذلك فيما بينهم. لقد سمعتُ أحدهم
يقول للآخر يوما:
- تركنا فلانا فوق الضصّ [القرفصاء]. صرفنا له أرضه يطارا [=ليترات
خمر]. وفعلا، فقد باع الرجل كل ما ورثه عن أبيه من أراضي وصرفه في الحانات،
وبقي الله كريما.
|