اعتذرت بلباقة لجماعة مسلحي السيوف والخناجر، انصرفتُ إلى
صديق آخر، تاركا إياهم يتبادلون تلاوة حزب المديح والثناء
على الأستاذ القديم .
لكن حتى أعزّ الأصدقاء فيهم من إذا بلغت به الخمر مبلغ
انكشاف حجب اللاشعور تحول إلى لص أو نصاب أو قواد (أو هما معا).
ألا إن قلبي ليتمزق شفقة على العديد من هؤلاء كهذا الذي أجلس
بجانبه الآن. يا سبحان الله بين نظرة ورمشة انقلب من مدار
إلى آخر. كان يشرب على نفقته، كان له ما يسدد به ما يشرب،
فما وقفتُ بجواره حتى أصبحتُ مهديه المنتظر!
- هيا يا نعيمة. جعة تلو
الأخرى للسي ...
لازمة كررها إلى أن أقلقتني شكوى جيبي، وبين القلق والقلق
كان ما كان .
وجدتُ صاحبي واقفا بجانبي ومعه فتاة في موقف مماثل لذلك الذي
اجتزته مع سيف ليلة زلت بنا الخمر، فما فطنا إلا ونحن في كهف باليما، عدا بعض الاختلافات الطفيفة في الإخراج:
كنا، أنا وسيف، الفنان التشكيلي، متكئين على فوتوي،
وقبالتنا شاب جالسٌ في الكونتوار بمحاذاة فتاة، يشربان معا،
لا يشك الناظر في أنهما خليلان .
بيد أن الفتاة كانت ترشقنا بين الفينة والأخرى بنظرات مشتهية.
ألقت شباكها علينا، وها نحن لها صيدان، ها نحنُ واقفان بجانبها
في الكونتوار، بعد انصراف رفيقها إلى حال سبيله. لكن ما مضت
لحظات حتى انبجس من جديد: مَسَحَنا بنظرات مزدرية، ثم أرسل
ابتسامة ساخرة وقال، بخشونة سرعان ما ستتبدى مصطنعة:
- أتحسبان الرجولة حكرا
عليكما؟ قولا لي ما قدري الآن؟ أحسبتماني قوادا أو لوطيا أم
ماذا؟ ذهبتُ للمرحاض، وإذا بكما تسطوان على حبيبتي!
ارتبكنا .
اهتدينا إلى المخرج... إن أعتى الرجال وأكثرهم تسلطا ليمكنك
كسرهم تكسيرا في الحانة إذا أهديتَ لهم شرابا. هيا يا ساقي،
سُق جعة لهذه و جعة لذاك... وتوالت الجعات تلو الجعات... إلى
أن رنَّ الجرسُ إيذانا بأوان الخروج، لفظتنا الحانة، ألقى
الفتى بمفاتيح فوق الكونتوار، ثم دعانا:
- لي منزل جاهز، فيه كل ما
يلزم. المنزل منزلكما والبنت بنتكما.
رفضنا، ألح في عرضه، أشفقتُ عليه، أنزلتني الشفقة إلى سفح
الطاعة، ألم يطمئننا قبل قليل؟ ألم يرنا بطاقته الوطنية،
ويزودنا برقم هاتفه؟ في مدينة خريبكة !،
ألم يتقمص هيأة الكاتب المبتدئ المحب للكتاب والفنانين؟ ألم
يقل إنه كتب سيرته الذاتية، وإنه محتاج لأشخاص مثلنا، يتولون
تصحيح المخطوط، ولم لا (يتولون) البحث عن إمكانية لنشره؟
ولكن الحذر طار بسيف إلى أعالي القسوة الشاهقة. لم يكتف بصدّ
الشاب فحسب، بل عانده عنادا؛ كلما أعاد الفتى العرض علا صوت
سيف:
- يا سيدي ابعد عنا، اغرب
عنا، ماذا تريد؟ اتركنا وشأننا؛ إننا لا نريد بنتا ولا خمرا.
نريد أن نختلي ببعضينا لنتحدث في أمور خاصة بنا.
خلتُ أن نوبة هستيرية قد استحوذت على سيف .
الآن فقط أدرك أن بعض نصوصه المترجمة لم تكن وحيا نزل عليه
ولا سفرا في مملكة الخيال. فيما بعد، عندما سأروي الحكاية
للأصدقاء بمكناس، سيقال لي: تلك عين الحكمة. الراجح أن الشاب
لم يكن قوادا إلا زعما، نصب لكما فخا بغية ابتزاز. لو سقطتما
في شراكه لألصقت بكما تهمتا الفساد والسكر العلني في بلاد
الإسلام ولخيرتما بين التكفير عن زلتكما بغرامة سرية، أو
تحرير محضر لكما تدون فيه التهمتان المذكورتان. وأصحاب
البذلة الرمادية عادلون في ذلك؛ يستوي عندهم، في هذه
المواقف، الصاحي والسكير على السواء لغاية في نفس الدولة. في
نفس الدولة، لأنها «تحلل» البغاء في الممارسة و«تحرمه» في
النصوص. تصنع العاهرات و«تمنع» مضاجعتهن. تترك العاهرات في
الشوارع حرات طليقات يصلن ويجلن ويصطدن طوابير الزناة،
وتحاصرك بعيون الشرطة. متى «ضُبطت» شُهرتْ عليك النصوص
القانونية. صرختُ بأعلى حلقي: أيتها الدولة، قولي لنا قولا
صريحا يخرجنا من
هذه المنزلة بين المنزلتين؛ فإما تبيحي للناس حرية التصرف
بأجسادهم أو تمنعيهم؛ إما تبيحي للناس الخمرة فيشربونها آمنين
مطمئنين أو تمنعينها فيعزفون عنها آمنين مطمئنين...
قلبتُ الشرك على صاحبه :
هدأتُ سيفا، أقنعته بإكمال الليلة في حانة ومطعم «Jour et
nuit». هناك سنجد من الأصدقاء ما سيقلب كل حسابات القواد
المزعوم. وبالفعل، ما طاب المقام الجديد حتى امتلأت المائدة
من حولنا بالأصدقاء وعلى رأسهم آيات الله سكراني الأستاذ
المعروف.. هناكَ، شرَّبنا الفتى من الخمر إلى أن قاء قرب
المائدة وغلبه النعاس وانصرف إلى حال سبيله...
|