على امتداد الطريق الفاصل بين المنزل والحانة، حدثت نفسي:
- سأشرب جعتين لا غير.
- حسنا هذه عين الحكمة،
لأن الخمرة متى شربها الإنسانُ وهو متوترٌ لعبت برأسه،
وهاجرت به إلى القارات الأخرى، حيث ينيط به «السُكرُ
الرباني»[1]
أدوارا قلما يهتدي إليها الصاحون.
- ولكي يتأتى لي ذلك،
فإني لم أحمل معي نقودا !
- نعم معي بطاقة الشباك
الأوتوماتيكي، لعلها اندست إلى جيبي من دون علمي، أو لعلَّ
خاطرا لا شعوريا حرصَ على حملها خفية عني...
- لكن هيهات، ثم هيهات أن
أخرجها. فقد لقنتني الليلة الأخرى درسا قاسيا. صرفتُ نصف
حوالتي في الخمر والبنات، ثم عدت إلى البيت منكسرا مغموما
وحيدا...
«من زلت به الخمرة لا
يُلدَغ مرتين !».
قلتُ ذلك ثم فتحتُ باب الخمارة، دخلتُ، أغلقته، من ورائي
بحركة آلية، طلبتُ من النادل أن يحضر جعتين .
رشفتُ الرشفات الأولى، كشف حجابُ عقلي، لاحت حدائقه السديمية،
طابت الإقامة.
بخلاف المال الحلال الذي يذيق المرءَ الحصولُ عليه
الأمرين، يشق المال الحرام سبيله إلى المرء شقا، ويقصده دون
عناء؛ إن كنتَ سكيرا وطلب منك ابنك أن تشتري له حذاء خيِّلَ
إليك أن الإفلاسَ سيصيبكَ جراء شراء الحذاء، وأحجمتَ عن
شرائه . أما إن
اشتهيتَ صرف ليلة في السكر، وحال بينك وبين السمر فراغ الجيب
وقصر اليد، فإنك ما تفطن إلا ونقود الليلة قد حضرت من حيث
«تدري ولاتدري». كشفُ الحساب موعدهُ غد، حال اليقظة، أما
منطق النبيذ فلا يعرف حسابا. صبيحة غد فقط تفطن إلى أنك
استعرتَ مبلغا أو اقتطعت لحما من البطن أو اغتصبت شيئا من
المنزل. والغد يتنوع، بتنوع موقع إجراء الحساب: إن كان
الموقعُ صحوا مُؤقتا كان الأمر على ما ذكرتُ قبل قليل: كان
الاغتصابُ هو عدم شراء شيء قد يكون المنزل في أشد الحاجة
إليه، وبذلك تكون الضريبة - ضريبة السكر - تأجيلُ شراء الشيء
إلى الشهر المقبل. أما إذا كان الصحو «نهائيا»، فإن الأمر
يكون أفظع من الحالة السابقة: يكون الشيء المغتصب هو الحياة
ذاتها، الوجود ذاته، على إثر مرض عضال، أو نمط الحياة
المتبقاة، الفاصلة بين المرء والمقبرة؛ يقضيها المرءُ مُفلسا
متأسفا على ما فاته من فرص للاغتناء وتأمين عيش كريم،
اغتصبتها منه الحانات اغتصبتها...
«ألا طوبى للذين مضوا إلى
الحياة الأخرى وهم سكرانين؛ لم يجروا أي حسابٍ من الحسابين».
قلت ذلك ثم دسست يدي في جيبي، وجدتُ فيه ورقة نقدية
قرنفلية لم يكن لي علمٌ سابق بوجودها .
طابت الإقامة. صفقت بيدي طالباُ جعتين أخريين. تذكرتُ قول
الأستاذ:
- إن أردتَ ملازمة مقام
الحكمة، فلا تلعب أبدا مع النبيذ. اشرب جعتين اثنتين لا غير.
إن تزد الثالثة فاقرأ على نفسك السلام !
ما أن رشفتُ أول رشفة من الزجاجة الثالثة حتى انكشف
الغطاء بيني وبينها، وجهها يطاردني، يطفو على صفحة الكأس
كلما رشفتُ رشفة .
اقتعلني من وحدتي أصدقاء جديرون بكل الاحترام والتقدير:
جابر، سفيان، وحامد. لو كان المرء يلقى جزاء عما يشربه من
خمر لكان كل واحد منهم الآن برتبة جنرال أو مارشال. صرفوا
سنين طويلة بين جدران الأفران. يتسمون بقدماء المحاربين.
تسمية صحيحة تماما، حاربوا على امتداد تلك السنين أجسادهم
وأبناءهم وجيوبهم. سوق السلاح زاهرة: كالفا، ويسكي، تشيفاس،
روج، بيرة، بونش، فودكا، باستيس، الخ. ساقتنا ترترة الكأس
إلى تبادل الشجون. الكل يشكو التواجد في الحانة، الكل يكره
الخمارة، ولكنه يلازمها، كأنها له مُعتقَل. ألا هل للانصراف
منها من سبيل!
قال جابر بمرارة:
- فرَّت الصغرى بدورها؛
غضبت وفرت إلى بيت أبويها. لستُ أدري أي شيء ينبغي أن أفعله
معها. فعلتُ ما لم يخطر لي على بال أن أفعله في يوم من
الأيام؛ أقمتُ ليلة كناوية مع أني لا أومن بجن ولا ولي ولا
قربان. ومع ذلك لبيتُ رغبتها ورغبة أمها...
قال ذلك، ثم أفرغ ما تبقى من قنينة الروج الصغرى، وطلب
قنينة كبرى .
ما الصغرى إلا زوجته الثانية التي تصغره بثلاثة وعشرين عاما،
امرأة في منتصف عمره. إن يعمر إلى أن يبلغ به السن 92 عاما
يكن عمرها هي 46 عاما! استبدل بها الكبرى، الفرنسية التي
تزوجها أيام كان طالبا بالسلك الثالث في باريس...
قاطعه سفيان:
- أتظن أنك وحدَك المتقلب
في سعير؟! لقد استدعاني مدير الثانوية اليوم، فاكتشفتُ أنه
يتغيب عن الدروس منذ أسبوعين. أين قضاهما؟ الله وحده يعلم.
يتصرف في المنزل على نحو لا يدع بذرة شك تتسرب إليك، تظن أنه
مواظب على حضور المؤسسة: يوهمك أنه ينجز التمارين، يطالب
بشراء كتب وأقلام... وأخيرا، فإن للأطفال في الانتقام من
الآباء طرقا هم وحدهم إياها يعرفون.
ما هو إلا أحد أبنائه الثلاثة الذين نشر الانهمام
بمستقبلهم في رأسه فرْوَ خروف...
علق حامد على الإثنين بسيل من الكلمات الفاحشة، كالعادة،
رام أحد تليين لسانه قلب وجهة الكلام إلى عائلته نفسها، قال:
- أمي عاهرة، وأبي لوطي.
أتعرفان لماذا؟ أمي عاهرة، لأنها أفنت حياتها في تربيتنا ولم
يعترف بها أحد، لا الدولة ولا المجتمع، مانالت من جزاء إلا
ذكر أبي. أبي لوطي، وما ناكه أحد غير الحركة الوطنية، لأنه
جاء بالاستقلال، فنال الجزاء: إنه غارق الآن في الديون، مهدد
بين الفينة والأخرى بدخول السجن...
حامد هذا أستاذ جامعي لمادة الفلسفة، هيأ دكتوراه بجامعة
أثينا، باللغة الإغريقية، في موضوع الأخلاق النيقوماخية .
لتحضيرها، قلب كل المعطيات التي ظلت تدخل في باب المسلمات،
إذ أقام في الأغورا شهورا، وأعاد تحديد موقعها، وحدد المكان
الذي كان يقعد فيه أرسطو لإلقاء دروسه، وكاد أن يمضي بعيدا
فيستعيد دروس المعلم الأول مسجلة على أشرطة صوتية، لولا كون
علم اليوم لازال متأخرا... هو أيضا رفض الدخول في اللعبة.
تزوج بمهندسة آملا في إنشاء بيت عصري، ولكن طغيان الأنثى
أقوى.
- كانت تقيم القيامة إن
شمت في فمي رائحة خمر، ممنوع أن تشرب ولو كأسا واحدا، لو
طاوعتها في رغبتها لكنتُ الآن صاحب ظهر مقوس وعينين غائرتين
جراء ما كنتُ صأصرفه في حساب أموال بناء الدور والمنازل، ومن
يدري؟ فلربما جعلتني صاحب متجر لبيع الحلوى أو لعب الأطفال..
لجعلتني فيلسوفا عمليا، ألقي الدرس النظري في الجامعة وأنجز
تطبيقه العملي في الدكان...
تشعبت بنا سبل الحديث فانتهينا إلى نتيجة واحدة: اشتبكت سبل حياة كل واحد منا، والتوت مسالكها، بيد أن طريقا
خفية ما وحدت بيننا في خفاء، وربما وحدت بين كل هؤلاء الذين
تعج بهم الحانة الآن، فكانت النتيجة واحدة: كلنا في الحانة
مقيمون. كلنا على طرف نقيض من الآخرين الذين التحقوا
بمنازلهم، وأدوا واجباتهم جميعا إزاء أبنائهم وزوجاتهم،
واستسلموا لنوم لذيذ لاستقبال نهار غد في صحة وعافية ومزاج
هادئ.
[1]
De Félice, Poison sacré, Ivresse divine,
Paris, Albin Michel, 1993.
|