9

 

 

تخيلتُ أنني في الجنة، بدا العشبُ الأخضر منتشرا على امتداد البصر، والزهور تتناثر فوقه كما في بساط فارسي، باب التجمع السكني مغلق، إن أعد إلى منزل الصافي يعتقلني، وضعتُ قدما في منتصف الباب الحديدي، وقدما في أعلاه، وثبتُ، وها أنا خارج العمارة، تمزق سروالي من خلف.

أخذتُ سيارة أجرة، عدتُ إلى المنزل، لبستُ بنطلونا آخر، ثم مرقتُ إلى الخارج، وحدها حانة «تل الزعتر» هي التي تفتح أبوابها في هذه الساعة المبكرة من الصباح. الحانات درجات، وسخاء ذات اليد مع الأولياء تتولى تقويم العمل، إنما المكافأة بالنجاح. ربّ هذه الحانة مارشال، ورب الأخرى جنرال، هذا عريف أول وذاك فريق ثانٍ، هذا ضابط وذاك جندي عادي...

موائد تل الزعتر فارغة كلها، طبلتُ الجعة الأولى، وها موكبٌ من العاهرات منكوسات الحظ، اللواتي خرجن بشباك فارغة من لجة الليلة، يدخلن واحدة بعد أخرى عساهن يجدن من قد تكون زلت به الخمر مثلي فيقلبُ نحسَهن في رمشة عينٍ إلى سَعدٍ سَعُودٍ. غمزتُ إحداهن، استجابت بمنتهى السهولة ومعها أخرى. هيا يا ساقي، جعة تلو أخرى، واحدة لي وثانية لهذه وثالثة للأخرى، ما فطنتُ لنفسي إلا ويساري مأخوذة مني ومدسوسة في فخذ البنت البدينة. لحمها رطب كأنه بشرة صبي. ألقيتُ بنظرة إلى أسفل المائدة، بدا لي الفخذان العاريان مُشرعان إلى أن أطلت زغباتها العطشانة من حوش الضريح. ومع أنني أكره النساء البدينات، فإن الدريسية بدت لي جميلة للغاية، سيما بعد أن شبكت أصابعها بأصابعي، كأنها تضرب معي عهدا أو ميثاقا أو كأنها خليلة قارة لي أعرفها منذ القدم، تروقني البنات السخيات اللواتي يختصرن علي الطريق فلا أكلف نفسي عناء كتابة سناريو ولا لعب دور ولا إخراج... قالت الدريسية:

- انظر وجهي جيدا

قبل أن أفعل، أعطتني فمها وأخرجت لسانها، وأخذت تمص لساني، أنا الآن صيدٌ ثمينٌ. تأملتُ وجهها، شعرتُ بالقرف. اللعينة. إنها هي. هي الآن تفعل أحد أمرين: إما تستبلدني كما استبلدتني في تلك الليلة وسرقت نقودي، أو تذكَّرتني وتسعى الآن للتكفير عن زلتها في تلك الليلة. نعم للعاهرات أيضا أخلاق. يكفرن عن ذنوبهن ويصمن رمضان ويذكرن الله. إن أحبت الواحدة منهن أخلصت ووفت، وإن تخلقت ارتقت في مدارج الصلاح وصارت أفضل من ألف سيدة محصنة...

في تلك الليلة زلت بي الخمرة أيضا، فتوجهتُ على الساعة الثانية ليلا إلى ملهى «وليلي»، شربتُ ورقصتُ وأقسمتُ أن أكون حكيما، وأعود إلى منزلي وجيبي آمنا. لم أزْن بلساني ولا بعيني ولو مرة واحدة، واللواتي عرضن علي مجالستي صرفتهن بمنتهى الأدب واللباقة. إلا أن الريح طرشتني عند مخرج الملهى، فكسرت الرغبة عقالها وأخذت وجهة التخوم القصوى، أفلتا مني أزمتها، هيهات ثم هيهات أن أسوقها ! اشتهيتُ جسدا أنثويا. وما خطوت بضع خطوات حتى وجدتهما جالستين داخل مطعم: الدريسية الجالسة بجانبي الآن وهي تدس يدي في فخدها، والجالسة الآن عن يسارها/ ابتسمتا، دججتا الابتسامة بنداء يدوي، وها أنا جالسٌ في مائدتهما، سددتُ مبلغ الوجبة، وشفعته بزرقاوتين، وها هما برفقتي، إلى الـ boudoir ! حاضر يا مستر ساد !

- سننام معك في فراشٍ واحد، نم معنا مجتمعتين إن شئت وكم شئت!

سأنام معهما معا. لا تعجبني النساء البدينات. البدينة سأكون لها أما حنونا، ستمصني، والنحيفة سأكون لها زوجا، سأضاجعها. أوقفني صعلوكٌ خمنتُ أنه كان صديقا لهما. طلبَ مني بلهجة لا تخلو من خشونة أن «أدوِّرَ معه». إن أرفض يكون له ألف عذر كي يعتدي عليَّ جسديا. سيقول: لك مالٌ كي تسوق عاهرتين، وليس لك ما تساعدُ به المعدمين مثلي. دسستُ يدي في الجيب. رمتُ إخراج ورقة عشرة دراهم. خرجت أخرى من فئة مائة درهم. بيد مرتعشة سلمتُ لمهدِّدي الورقة النقدية، ثم انصرفتُ رفقة العاهرتين، وشرعتُ في خلع ملابسي وأنا عازمٌ على إرضاع تلك ومجامعة هذه. امتطينا سيارة أجرة صغيرة. سائقو سيارات الأجرة هم الآخرون يصيرون في الليل أطرافا في شبكة من التواطؤات. كاد الخوف والفقر أن يكونا كفرا، ما من شيء تريده إلا ويدلك عليه سائق سيارة الأجرة ليلا، يستوي في ذلك الشباب والكهول، يريك أين تباع السجائر في الثالثة صباحا، أين يباع الخبز، أين يباع الخمر، أين يباع الحشيش. الجيبُ عبدٌ وعداد النقود سلطان وما على السائق إلا السمع والطاعة.

اتجه السائق إلى محطة بنزين، شرع العامل في تزويد السيارة بالوقود، وها هي البغلة تقف وراءنا. أصيبت البنتان بالهلع. قالتا: «السياف والجلاد»، ثم لاذتا بالفرار. قصدني أحدهما، قال بلهجة صارمة:

- رسمُ ولادتك

- ها هو.

تهجى الاسم والعنوان، ثم قال:

- مع السلامة يا شيخ.

وانصرفا.لأجد نفسي في البيت وحيدا. لو.. لو.. لو.. لكنتُ الآن ممددا عاريا فوق هذا السرير ولقدحت البدينة زناد رغبتي (...) إلى أن أشتعل فأحرث النحيفة. ارتديتُ ملابسي، اتجهتُ إلى مقهى العصفورة. الساعة تشير إلى الخامسة صباحا. المقاهي هي الأخرى درجات. وسخاءُ ذات اليد مع الأولياء يتولى تقويم العمل، إنما المكافأة بالنجاح. ربّ هذا الحانة مارشال، ورب الأخرى جنرال، هذا رقيبٌ أول وذاك رقيبٌ، هذا ضابط وذاك جندي عادي. العصفورة ممتلئة بالبغايا منكوسات الحظ. ما وطأت قدمي العتبة حتى ابتسمت معي فتاتان. عرفتُ للتو أيَّ شرك سقطتُ فيه. إنهما هما. ربما اقتسمتا المبلغ مع السياف والجلاد. كل قام بدور ونال قسمة عادلة من الغنيمة. قلتُ: «أنتما؟!». نفتا نفيا قاطعا أن تكونا هما [اللتان سرقتاني في تلك الليلة]. لاحظتُ اختلافا في الملابس، أرغمتُ نفسي على تصديق زعمهما. ودعتهما. رافقتُ الصافي إلى حانة «الزعتر».

 

رقصـة باخــوس

(رواية)

لمحمد أسليـم

المحتـــوى

القسـم الأول

1

2

3

4

5

6

7

8

9
10

11

القسـم الثانـي

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26
27
 

 

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.