8

 

 

نحن ننزل إلى الشعب كي نتضامن معه ونتواضع، لكن الشعب لا يريد ذلك؛ الشعب مازوشي، يكره من يعامله بطيبوبة وإنسانية، ويحب من يكرهه ويهوى على ظهره بالهراوات؛ الشعب يحب من يضربه فعليا أو رمزيا، إن لم تكن لديك معرفة بنفسية الشعب ومزاجه ورغباته، فابتعد عنه، وإلا فأعدّ دارَ أبيك للخلاء، وارقأ على نفسك السلام.

خرجنا من البوكس. عرض عليَّ الأصدقاء إيصالي إلى المنزل، رفضتُ، أخذوا لي سيارة أجرة صغيرة وهم مطمئنون إلى أنني ما كنتُ سأقصد إلا منزلي، سيما أن الصافي أستاذ الرياضيات قد استقل معي سيارة الأجرة ذاتها. قال الصافي:

- سيوصلك السائق إلى بيتك، ثم يواصل السير بي إلى منزلي.

لكن هيهات هيهات! فللخمرة في العقل والرغبة طرقات لا يلجها إلا من شربه المدام. طاب الحديث داخل السيارة، عرض عليَّ الصافي أن أرافقه إلى البيت، خمنتُ أن عنده شراب، قبلتُ. لم يكن عنده شراب، لم يطب عنده المقام. أراد أن يُسمعَني أغنية لجاك بريل أو أهزوجة أمازيغية. خيِّلَ إلي أنه يضحك عليَّ أو يستهزئ بي. ضاق بي المكان. أريد مزيدا من الشراب. تظاهرتُ بالرغبة في قضاء حاجة، دلني الصافي على بيت النظافة:

- في نهاية البهو ستجد تجد بابا عند يسراك...

قال ذلك، ثم انهمك في البحث عن شريط الأغنية الموعودة. تظاهرت بالدخول إلى المرحاض، عرجت على يمنايَ، كان باب المنزل غير مُوصد بالقفل، تسللت إلى الخارج، أطلقت ساقي للريح. في الحديقة السفلية للعمارة تخيلتُ أنني في الجنة؛ بدا العشبُ الأخضر منتشرا على امتداد البصر، والزهور تتناثر فوقه كما في بساط فارسي. السكارى يجيدون اختيار أماكن سكناهم. بوصلة باطنية تهديهم إلى المنازل التي تريحهم نفسيا. من يرَ الصافي في الحانة لأول مرة يصابُ بالذهول لامحالة، ويعجبُ لماذا لا يطرده محجوب من رفائيل. وحدهم الحاضرون، يومَ وَسْوَسَ الشيطانُ لمحجوب فأمر زيتونا الحارس بإخراج الصافي، يعرفون. في ذلك اليوم سكرَ الصافي كثيرا، كعادته، وقرأ الشعر بأعلى حنجرته وبكى عندما أنصفه بعضهم بكلمات رقيقة وأهداه نسخة من كتابه الأخير. الأمر الذي لا يخطر على بال من يرَ الصافي لأول مرة؛ سيقول: «مستحيل أن يكون لهذا الشيباني ضخم الجثة إحساس رهيف إلى هذا الحد». ولكنَ الغلبة للحساب، وجيوب أصحاب الحانات جياعٌ... في ذلك اليوم صدف أن جاء غرباء كرماء، حلوا عقد جيوبهم، وأنفقوا بسخاء، من العاشرة صباحا إلى السادسة مساء. ومخافة أن ينزعج الغرباء من صراخ الصافي وإنشاده الشعر اختار محبوب التضحية بالقريب لفائدة الغريب: طرَد الصافي واعتذر للغرباء، انزعج الرواد. حتى السكارى يتضامنون...

 فرغت حانة رفائيل من تلاميذها النجباء. هرول محجوب إلى الصافي يستعطفه ويسترحمه:

- قالت لك الحانة: سدِّدْ دُيوني، إن لم تستطع إرجاعها كاملة، فأقساطا أقساطا.

تجاهل الصافي طلب الحانة، ظلت رفائيل فارغة من تلاميذها النجباء. عادت رسل محجوب تستعطف الصافي وتسترحمه، قائلة:

- قالت لك الحانة: سامحك الله في الدنيا والآخرة عن الديون، المال حلال لك، لا تُعِدْ لي مليما واحدا منه. كل ما أرجوه منك هو ألا تستبدل رفائيل بحانة أخرى، عد إلى الحانة، أرجوك عد إلى الحانة...

وآنئذ فقط عاد الصافي، وعادت رفائيل إلى سالف عهدها، وعمت الفرحة وجه الأساتذة: محجوب، يامنة، حسنة، سعدون، سلمان، والأشتر، وواصل التلاميذ التحصيل بمواظبة وهدوء وانضباط. والأمر هنا ليس من أحابيل المجاز. السي احمد يعرف ذلك جيدا. حنكته السنون الطويلة التي قضاها في معاشرة السكارى المترددين على حانته (منهم من دخل لأول مرة إلى فونتيللي شابا ورأسه اشتعل اليوم شيبا، ولم يغادرها بعد) فصار لا ينادي زبناءه إلا بـ «أبنائي» و«تلاميذي»؛ يقف بباب الحانة ساعة الإغلاق، وهو يصفق بيديه معا ويردد:

- يالله يا أبنائي. يا لله يا تلاميذ. انتهت حصة اليوم، وحانت ساعة النوم. إلى فراش النوم، موعدنا غد.

ولكن كما السكر درجات، الأستاذية درجات: أن تكون تلميذا نجيبا عند السي احمد هو أن تسكر بهدوء وتحتفظ في جيبك بما يتيح لك العودة غدٍا وبعد غد. ربما لأنه لا يطيق الطلق أو ربما لأنه من الأساتذة الذين يقولون لتلاميذتهم: «اعمل بنصيحتي لا بسلوكي». فهو اكتوى حتى النخاع بنار التبذير إلى أن رأى فيه كاتبٌ مهووسٌ بالتبذير نموذجا مثاليا، فأدرجه في أحد أعماله، قال عنه:

«أعرف رجلا يمكن اعتباره نموذجا مثاليا لهذا السلوك: فهو رب حانة صغيرة، يقضي اليوم مشتغلا، وعند ساعة الإغلاق يجري الحسابات، ويفرغ الصندوق مما اجتمع له طيلة اليوم من أرباح، ثم يضعه في جيبه، وينصرف إلى حانة أفخم فندق بالمدينة، وهناك يقضي الليلة في احتساء الخمور وتنقيط العاهرات والراقصات بالأوراق النقدية، إلى أن يصرف كل ما اجتمع له في اليوم، وآنذاك فقط يعود إلى المنزل مرتاحا مطمئنا، راضيا مرضيا»...

أمَّا أن تكون تلميذا نجيبا عند محجوب، فهو أن تواظب على المجيء إلى الحانة، هو أن تصير عبدا لها. تضيق بك الدنيا فلا تسعك إلا عندما تكون قبالة سلمان أو الأشتر، أو سعدون أو أمي يامنة أو حسنة. الحرص على جيب الزبون آخرُ انشغالات محجوب ما لم يكن غير وارد في جدول أعماله بالمرة، إن تنفقْ كل ما بجيبك الليلة يضع لك في الليلة الموالية سبورة، فتسقيك رفائيل من الكؤوس والزجاجات، الليلة تلو الأخرى، ما يجعلك لا تفطن لنفسك إلا وقد أصبحتَ مدينا لها براتبك أو ضعفه، وصرتَ تصرف عليها أضعاف ما تنفقه على أبنائك وربة بيتك. ولك آنذاك أن تتحرك عن رفائيل يمينا أو شمالا إن استطعت سبيلا. بعبارة واحدة، أرباب الحانات بشرٌ ونحن السكارى كلابٌ. منهم من يروضنا بلطف وأدب وحيلة، تلك حالة السِّي احمد، ومنهم من يروضنا بالعصا والعنف والتهديد، وتلك حالة محجوب....

 

 

 

رقصـة باخــوس

(رواية)

لمحمد أسليـم

المحتـــوى

القسـم الأول

1

2

3

4

5

6

7

8

9
10

11

القسـم الثانـي

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26
27
 

 

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.