ها نحن في حانة
«البوكس»، الفضاء ممتلئ عن آخره بحثالة المجتمع، بحثالة الحانات، الذين لا يشربون الخمر
وإنما تشربهم، لا تلفظهم حانة إلا ويبحثون عن أخرى، وكلما
توغلوا في الليل ولفظتهم حانة تماسكوا بالأيدي وقالوا: هلم
إلى الآخرى. حلِّت في رُوحُ حاتم الطائي، أمرتُ الخمَّار:
- هات زجاجتي «روج»
كبيرتين، وأربعة كؤوس.
ساقها إلينا وهو يرقص، صارت مائدتنا قبلة للحاضرين، سالَ
لعابُ الأولاد والبنات من حولنا، كل لغاية في نفسه، الأولاد
لجيوبنا والبنات لفُرُوجنا، ساقني الفضول إلى الطابق السفلي
للحانة، شجعني عليه مشاهدتي فتيات يصعدن منه وينزلن إليه .
الخمرة تفك الرغبة من عقالها، وتجعل المرأة محور الكون. حتى
اللواتي يترفع المرءُ عن النظر إليهن أو التحدث معهن في صحوه
ولو أغريته بأموال الدنيا، حتى أولئك يصرنَ زاهيات يتلألأن جمالا
بفعل النبيذ. اسألوا علي طالبان، عنده الخبر، زوجته تتلألأ
جمالا، لكن متى لعبت الخمرة برأسه وتحركت شهوات الخيانة
بداخله، صرف ربة البيت إلى أهلها، وعاد إلى البيت متأبطا
عجوزا في سن أمه. ذات صباح هاله منظر شريكته في الفراش،
فانسل إلى الحمام، وهتف إلى أحد أصدقائه، جاء الصديق مذعورا،
استعطفه علي:
- إن كنت صديقي فعلا،
أرجوك اسْد لي جميلا واحدا: تدبر أمر إخراج الكارثة الراقدة
في الفراش...
قال جابر :
يلزم المرء أن يكون محللا نفسانيا ليفهم هذا الأمر...
في الطابق السفلي، اكتشفتُ وُجود كونتوار وموائد، وها هي
الفرجة تبدأ الآن .
طويتُ صفحة قنينتي الطابق العلوي، وفتحتُ صفحة أخرى: طبلتُ
علبة تبغ، وشرعتُ في طلب قنينات الجعة واحدة تلو الأخرى، ومن
عيني جعلتُ شباكا لاصطياد البنات. أنا الآن أحد شخصين: إما
حاتم الطائي أو بدوي حل لتوه من أراضي نجد أو الحجاز ...
وهذا هو ما ينتظره كل من يأتي للحانة لغاية في نفس جيبه، بل
ولهذا تفتح الحانات والملاهي الليلية هنا أصلا. الكل يتحول
إلى لص متربص أو شحاذ مزعوم، يستوي في ذلك العاملون
والعاطلون، رواد الفضاء والمشتغلون فيه، العابرون والمقيمون،
الغرباء والأصدقاء على السواء. ما يتنفس القوم الصعداء إلا
عندما يفرغون جيبك وتعود إلى المنزل بخفي حنين. ولعمري هكذا
يكون الحفدة وإلا فلا. مخلصون للأجداد الأوَل. كانت الحياة
عندهم نهبا. العمل باستقامة والحرص على زبون اليوم ليعود غدا
بدعة وضلالة أحدثهما الغربيون، ولذلك فإنهم يتصرفون مع من
زلت به الخمر على نحو ما يتصرف الأتباع مع الأنبياء، كأنهم
يقولون:
- أي إمامنا ومهدينا
المنتظر! مُذ فتحت هذه الحانة أبوابها ونحن في انتظارك إلى
أن كدنا أن ننفض أيدينا من قدومك.
لكن ها أنت أخيرا جئت،
تفضل، تفضل، أهلا وسهلا ومرحبا، مرحبا، كم في جيبك؟
لا تجبهم، فهم غير محتاجين للجواب أصلا؛ لأن لهم حاسة
سابعة يقرأون بها نوايا المرء، ويطلعون بها على سرائره من
أبسط الأشياء كنظرته، ومشيته، وتردده على الميضاء.
يلزمك يا قزويني أن تضيف إلى نمذجتك فئة أخرى من أصحاب
النفوس، تسميها «نفوس كاشطي الجيوب، وهُم أهالي
الحانات».
|