13

 

 

انفردت بنفسي في مائدة، شربتُ ثلاث جعات، طاب المقام، وها هي البكماء جارية نحوي، غضبتُ، أمرتها بالانصراف، ألحت علي بضرورة الإنصات، اعتذرتْ كثيرا عما صدر منها تلك الليلة، معلقة كل ما وقع على مشجب الخمرة:

- لعبت الخمرة برأسي كثيرا، في تلك الليلة، وإني لأكاد أعثر في مشيتي خجلا مما صدر مني، ولكن لا عليك، سأرافقك الليلة إلى منزلك دون أقبض منك مليما واحدا، سأعوض لك الليلة ما اغتصبته منك في الليلة الأخرى...

ركبني العناد، سُدت منافذ الصفح بداخلي، أمرتها بالجلوس، صفقت بيدي، حضر النادل، أمرته بالامتثال لطلبات البكماء، شربَت خمس جعات أو ست، ناولتها علبة سجائر مارلبورو، ثرثرت معها كثيرا حتى إذا أيقنتْ أنني صفحت عنها، وتوهمت أنني سأدعوها للمبيت معي، أمرتها بالانصراف، خيل إلي أنها بقيت مشدوهة، طلبت مني مبلغ 5 دراهم لتستقل بها سيارة أجرة، وتلتحق بإحدى علب المدينة، قلت لها بكبرياء:

- إن شئت مزيدا من الشراب أهديتك إياه، أما النقود فلا، ما معي سنتيم واحد...

مسحتني بنظرة غريبة، انصرفت وهي تجر ذيول الندم، لم أحس ببذرة شفقة تجاهها، بل أحسست بنوع من الفخر، مرددا: أخيرا ها قد اهتديت إلى السبيل الصحيح لمعاملة العاهرات، كلهن تقريبا يكرهن من يشفق عليهن أو يعاملهن بإنسانية، ما ينحنين احتراما وإجلالا إلا لجلاد. المشاعر والتصرفات الإنسانية مقامها عوالم أخرى، إن لم تأخذ حذرك فلا تلومن إلا نفسك، ولذلك فالسرقة عندهن تدخل في باب الصغائر. استحضرتُ ما نهبته مني العاهرات، أصابني الدوار. فاطمة، عاهرة بلير، سددت لها ثمن الليلة مسبقا، وأضفت عليه زيادة. للمشاعر الإنسانية في الباطن نداء. قالت إنها أم أطفال، لكن للمتعة أيضا حسابات. سددت لها الثمن مسبقا، واشتريت 10 علب تبغ من النوع الممتاز وخمس قنينات خمر، فما أصبح النهار إلا والمنزل مكنوس، انصرفت محملة بالخضر والفواكه والعطر والصابون، وأشياء أخرى لا أذكرها، فعلت ذلك على مرأى من عيني ومسمع من أذني، بل ربما بتواطؤ مني، كأنني انشطرت إلى شخصين أحدهما ينتقم من الآخر، أحدهما ينهب الآخر...

لما أخبرت جابر وحامدا وسفيان بحكايتي مع البكماء والأجنبي بدت لهما قصتي في منتهى التفاهة:

منذ يومين فقط، حلت بحانة رفائيل إحداهن، التوت على زبون، أحسن ضيافتها، أكلت وشربت ودخنت إلى أن قاءت وتبرزت، ولكن أيادي العاهرات خفاف، اختلست منه مبلغ 5000 درهما، انصرف، مضى وقت وجيز، وها هو عائد يبحث عن المبلغ المفقود، ويفطن إلى أنه قد سرق، لكنه مسروق محظوظ في الواقع؛ وجد المبلغ كاملا في انتظاره، والعاهرة قد انصرفت عرجاء جراء ما هوى عليها من لكمات وركلات أغلب من كان بالحانة. شاهدها محبوب صاحب الحانة وهي تختلس جليسها، وشدد عليها الحراسة، فما انصرف الزبون حتى لوى على ياقتها، انتزع منها المبلغ، فما كان من القبيلة إلا أن تضامنت مع الزائر المسروق...

قال سفيان: محظوظ ذلك الزبون، لو سرق منه المبلغ في حانة «ريصانة» لما استعاد سنتيما واحدا؛ في الأسبوع المنصرم سكر أحدهم، مستشار مجلس بلدي بالضواحي، إلى أن التحق بسلالة حاتم الطائي، فأحاطت به البنات، ووزع الشراب وأطباق الأكل يمينا ويسارا، وفرح كل من بالحانة، وعم الهرج والمرج... وفي غمرة الضوضاء والسكر مدت إحدى الساقيات يدها إلى جيب السكران، واختلست منه دزينة من الأوراق النقدية، شاهدها صاحب الحانة، بارك العملية، انصرف الرجل، وما طرشه الريح حتى عاد يبحث عن المبلغ المسروق منه: 7000 درهما، قصد البنات، قدم صاحب الحانة فتوى لإحداهن: قال لها: قبليه من الوجنتين، فينسى الحكاية وينصرف من حيث أتى، وذاك ما كان...

 

 

رقصـة باخــوس

(رواية)

لمحمد أسليـم

المحتـــوى

القسـم الأول

1

2

3

4

5

6

7

8

9
10

11

القسـم الثانـي

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26
27
 

 

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.