6

 

 

الكل يتحول إلى لص متربص أو شحاذ مزعوم، يستوي في ذلك العاملون والعاطلون، رواد الفضاء والمشتغلون فيه، العابرون والمقيمون، الغرباء والأصدقاء على السواء. ربما لهذا تفتح الحانات والملاهي الليلية هنا أصلا.

وقف بجانبي أحد تلاميذي القدماء، لم أتذكره، لكنه تذكرني، أمطرني من المديح بما فتَحَ جيبي، فطفقتُ أهدي الجعة تلو الجعة ليس له وحده فحسب، بل كذلك لكل من كان يحيط به أصدقائه المزعومين، تلا على مسامعهم حزبَ المديح والثناء على الأستاذ القديم. هرعَ إليَّ جابر بوجه مصفر، جرني إليه قليلا، همس في أذني: إن تلازم الوقوف مع هؤلاء يقطعوا جثتك إربا إربا. أخبرَنا بذلك زيتون، نادل حانة رفائيل؛ قال:

- لغز أشكل علي، أريد معرفة حله: ماذا يفعل صاحبكم مع أولئك؟ إنَّ أضعفهم ليَحملُ في جيبه على الأقل مُدية أو سكينا، كلهم مسلحون بالسيوف والخناجر.

مع أن الأمر بدا لي مستحيلا، فقد انصعتُ لأمر جابر إلى حين، لأتمرد عليه لاحقا فتكاد جثتي فعلا تقطع إربا إربا على يد التلميذ القديم وصديق له... ليلتها لعبت الخمرة برأسي، فأعجبتُ بجمال فتاة إلى حد الهذيان، أطلقتُ عليها لقب «الشينوية» (الصينية). وجه صيني فعلا، سُكب في جَسد قلما يُرى مثله خارج حلبات عرض الأزياء.

- أريد الشينوية، أريد الشينوية، أريد الشينوية.

كررتُ على مَسمع تلميذي القديم وصديقه، مثل لازمة أغنية، طيلة تلك الليلة، وكلما تفوهتُ بالنداء وعد الجليسان بتلبية النداء:

- لن تبيت عند أحد سواك ! لن تبيت عند أحد سواك ! سنتكفل بإحضارها لك «حية أو ميتة»، سنحضرها لك مثل قطة.

وكلما راقني الجواب أكرمتُ جليسي من الخمر بما فضل عليهما فتصدقا به ليس على أصدقائهما فحسب، بل وكذلك على الشينوية وجليسها الذي سيتبدى فيما بعد أنه «خليلها»، وأنها تتخذ من جمالها فخا للحصول على شرابها وشراب عشيقها... حتى إذا دقت ساعة الوفاء بالعهد، وجدتُ نفسي في سيارة أجرة صغيرة رفقة التلميذ القديم وسائقه، في باب خمار سري، سددت المبلغ المطلوب، امتلأ كيس عن آخر بقنينات الروج والجعة..

- إلى أين يا تلاميذ؟

- إلى منزل الشينوية.

انطلقت السيارة تمخر عباب الليل، أصختُ السمع، كانا قد أمرا السائق إلى التوجه لحي الطوارق، همس أحدهما للآخر:

- إلى فاطمة، إنها لم تخرج في هذه الليلة، سنجدها مستيقظة !

تظاهرتُ بالبلادة:

- إلى أين نحن سائرون؟ إلى منزل الشينوية؟

- في الحقيقة، للشينوية عشيق... لا تقضي ليلة مع زبون... سنبحث عن بنت أخرى، تشبهها تماما، كأنها نسخة طبق الأصل منها..

غضبتُ، أمرتُ السائق بالتوجه إلى منزلي، امتثل، الحاجة حربٌ والجيب غلابٌ، امتثل السائق، في الباب، سددتُ فاتورة النقل، صرختُ في وجهيهما:

- اسمعا يا سادة. لا أريد شينيوية ولا فاطمة ولا خدوج ولا يحزنون. خذا الخمر واغربا عني.

كانت عين الحكمة تقتضي أن يفرحا بالغنيمة أو الصدقة، فيشكراني وينصرفا، ولكن للخمر عين حكمتها الأخرى. شعرا بالإهانة، لما أوشكتُ على إغلاق باب المنزل، أحسست به يُدفَعُ بعنفٍ، غالبتُ عنفهما، أغلقته بمنتهى المشقة والصعوبة. أرادا الدخول إلى المنزل قسرا وعنفا...

 

 

رقصـة باخــوس

(رواية)

لمحمد أسليـم

المحتـــوى

القسـم الأول

1

2

3

4

5

6

7

8

9
10

11

القسـم الثانـي

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26
27
 

 

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.