طابت الإقامة، ولذ طعم النبيذ والتبغ .
فطنتُ فجأة إلى أنني شربتُ عشر جعات. توالى ترددي على
الميضاء. «الجعة نبيذ جيد، سوى أنه يُكثر التبوّل». كلامٌ
قالته لي خليلة سكيرة منذ حوالي سنتين، لكنني لا أفهم إلا
الآن المغزى الذي كانت تقصده من ورائه... في كل ذهابٍ تمسحني
إحدى الفتاتين الواقفتين في الكونتوار الداخلي لرفائيل بنظرة
غنجة. سدَّدت سلاحها صوبي، ووضعتني هدفا لمرماها. لا، ربما
أخطأتُ أو ربما بدأ السّكر يأخذ مني. إنهما عاهرتان،
والعاهرات يسددن سلاحهن صوب جميع الرجال، يضعن الرجال جميعا
أهدافا لمراميهن. وحدهُ المالُ يحدِّد الفريسة المقبلة.
عجبتُ؛ هل تفوح مني الآن رائحة نقود؟ لا، كلما في الأمر هو
أنهما الآن «عاطلتان» أو أن الطلبَ قليلٌ اليومَ مثلما كان
قليلا أوَّل ليلة ساقتهما حسنة إلى الحانة. نعم حسنة ساقية
الكونتوار الداخلي هي التي ساقتهما، أتت بهما من خنيفرة، لأن
رمضان على الأبواب: شهر إفلاس للعاهرات وأصحاب الحانات.
وحدها حنان جاءت بالخبر...
كريم كريم أنت يارمضان
! تلطف حتى قلوب العاهرات.
هذا الجسد المتمنع المكتنز الذي كان أيام الفطر قبلة لأنظار
الأعراب إذا مر في الشارع، وكعبة للسكارى إذا وقف خلف
كونتوار حانة، هذا الجسد ذاته يمنح لي نفسه بسخاء من غير طلب مني.. طوال
الشهر المبارك سمرت حنان جسدها في بيتي بمسمار، تتردد عليه
صباح مساء، بذريعة مساعدتي في تهييء وجبتي الفطور والعشاء،
لكن في الحقيقة للنهب بقناع الاستجداء، كل يوم تأتي محملة بطلب.
إذا ما الخجل حاصرها، حاصرته بوابل من الأكاذيب:
- بعد انصرام رمضان
سأواظب على المجيء إليك محملة بقنينات الخمر، والعشاء... لن
أتركك تدس يدك في جيبك...
لزمني حبك سيناريو جهنمي للتخلص منها .
سقتُ إلى المنزل جابرا وحامدا وسفيان، فتقمصوا دورَ علي
طالبان. لا تجد الرغبة لديه طريقا للإشباع إلا إذا تعاقب على
أثنى رفقة زمرة من الأصدقاء. جمعت حنان أشياءها وأطلقت
ساقيها للريح...
في ليلة الجمعة تلكَ أنا الذي كنتُ اتخذتُ إحداهما مرمى
لهدفي، ولكن أبناء العمومة أولى .
الدعارة هي الأخرى لها آداب وقواعد. ما أن صوَّبتُ نحوهما
حتى قال لي سفيان:
- «في يديك» (في
متناولك)، سيقضيان الليلة عندكَ. حسنة هي التي جاءت بهما من
خنيفرة. ليلة أمس مكثتا في الحانة حتى موعد الإغلاق. ما
كانتا تريدان مالا ولا شرابا، كانتا تريدان فقط المبيت في
مكان آمن، لكن أحدا لم يجرؤ على اصطحابهما معه. الجميع يخشى
على نفسه، الخمر تحول الناس في الليل إلى وحوش بهيآت آدمية،
يستوي في ذلك اللصوص والقوادون والعاهرات... لا يسلم إلا
الذين لم تزل بهم الخمر، الذين ما وضعوا السهر ولا اصطحاب
العاهرات في حساب أو حسبان... هذا يسعى إلى ابتلاع ذاك.
الغلبة طبعا للأقوى. والأقوى هو من ليس له ما يخشى خسرانه.
يستوي عنده البقاء حرا أو العودة إلى دهاليز السجون. و لذلك
فهو لا يتردد في القتل والجرح والضرب...
لمعت عينايَ، توجهتُ إلى الكونتوار الداخلي، جلستُ قبالة
حسنة ويامنة، تأهبت للانقضاض على إحدى البنتين، ولكن أبناء
العمومة أولى؛ وقف أمام البنتين رجلان، وغرقا معهما في حديث
بلهجة لا أعرفها، أحسستُ أني غريبٌ داخل وطني، لا أستطيعُ
التواصل مع بني جلدتي .
احتشدت جيوش قنينات الجعة أمام الأربعة، انطلقت طلائعها
الأولى من أمامهم، ثم قصدت مجلسنا، كأنها جيوشٌ تطاردنا. سكر
الرجلان، حلت فيهما روح حاتم الطائي، فُضَّتْ أغلالُ جيوبهما،
ها هما يُنفقان بسخاء. انشرحت أسارير حسنة إلى أن لمعت
عيناها ووثبت منهما الضحكات. وكذلك يامنة..
يامنة وحسنة أيضا اشتبكت سبل حياة بكلتيهما، والتوت
مسالكها، بيد أن طريقا مَّا خفية وحَّدَتْ بينهما في خفاء،
فكانت النتيجة نفسها :
هما معا في الحانة مقيمتان. لكن إقامتهما تختلف جوهريا عن
إقامتنا: نحن نأتي لنبذر أموالنا، وهما تأتيان لتجمعا المال.
تعودان في كل ليلة إلى بيتيهما محملتين بالغنائم. مكان واحدٌ
يجمعنا، لكن هو لنا سعير نتلظى فيه، وهو لهما مسجدٌ تقيمان
فيه الصلاة وتقعدان فيه ليلا للعبادة، فتلقيان بذلك جزاءهما.
ليامنة بنتٌ طالبة مسجلة بالسلك الثالث، وحسنة تعيش حياة
متزنة، تحظى باحترام سكان الحي والجيران. طوبى لهما! فهما من
البنات القليلات اللواتي يخرجن سالمات من عالم الخمر
والبغاء. فلكي تنال الواحدة منهن رضا صاحب الحانة يجب عليها
أن تجلب أكبر عدَد من الزبناء، وتدفعهم إلى استهلاك أكبر
مقدار ممكن من الخمر. وبتوالي الأيام يصير نصيب استهلاكها من
الخمر يوميا، على حساب الزبناء طبعا، هو ما لا يقل عن ثلاثين
إلى أربعين جعة. عشرة للمضمضمة كما يُقال، والبقية للارتقاء
في مدارج السكر. يلزم من غضب عليه الرب وشاء الزواج بإحداهن
أن يبني معصرة خمر في المنزل ليصرف ربة بيته عن معاقرة الخمر خفية
على حساب شركائه فيها من الزناة. إن يأفل جمالها ينخفض
سهمها، وتهزل فاتورتها اليومية، ولا يجد رب الحانة بدا من
رميها إلى الشارع، ولا تجد بدا من التحول إلى شحاذة ما لم
تصب بالجنون أو تتحول إلى قوادة...
حسنة فتاة في منتهى الذكاء .
سفيان عنده خبرها، حدث قال:
- عرفتُ حسنة منذ كانت
صغيرة السن. الآن ماتَ حوتها [أفل نجمها]. عندما كانت صغيرة، كانت جهتها
تكتظ بالزبائن والرواد، وكانت تعود في كل ليلة إلى منزلها
وهي محملة بالأوراق النقدية. كانت تدسها في كل أجزاء جسدها
الداخلية...
مال جمالها الآن إلى الأفول، لكن للجمال حروفا يتركها متى
غاب. أترى لذلك لم يطردها صاحب الحانة أم لأن لها حيلا في
جلب النقود لا تخطر على بال؟
علا صوت الأربعة منشدين أهزوجة أمازيغية
- فيما يبدو - لم أتبين منها
سوى كلتين: «إفرُو حمَّام».
عمت البهجة الحانة، وانشرحت أسارير السكارى، وعمت أرجاءها
الرقصات.
|